هل يشكل فيسبوك انطلاقة لعصر التنوير العربي؟

04 مارس 2015
التلاقخ بين الأفكار هو عتبة التنوير الحقيقي (Getty)
+ الخط -

جلوس الأوروبي في المقاهي، بما تمثّل من فضاء عام، لشرب الشاي أو القهوة المحلاة بالسكر، وتدخين السجائر، كانت واحدة من أهم عتبات بدء عصر التنوير في أوروبا، وكان هذا سبباً لظهور أشهر الأفكار الإبداعية في تاريخ أوروبا، والتي ولدت على المقاهي.

فجلوس الأوروبي "على القهوة" كان يعني أن هناك شريحة كبيرة من المجتمع أصبح لديها من الوقت والمال ما يكفيها ويزيد عمّا تحتاجه يومياً، وأن لديها من المال ما يكفيها للمستقبل القريب، على عكس ما كان يحدث سابقاً، حيث المال والطعام لا يكفيان إلا لأيام قليلة، والإنسان مشغول يومياً، وطوال الوقت هو في محاولة البحث عن الطعام والمال، وهذا الوقت الذي أصبح متاحاً نتيجة هذا الوضع الجديد، دفعه إلى الجلوس مع أصدقائه في المقاهي في أوقات الفراغ. وشرب الشاي والقهوة المحلاة بالسكر مع تدخين السجائر، يعني أن هذه المشروبات التي لم تكن معروفة من قبل لديهم، أصبحت متاحة لديهم بديلاً عن الكحوليات التي كانت تستخدم كمشروبات يومية تبعث على الدفء في ليالي أوروبا شديدة البرودة. دخول القهوة والشاي أخرج العقل الأوربي الواقع تحت تأثير المسكرات طوال اليوم، إلى عقل آخر منتبه من شرب المنبهات، وإن مادة السكر الذي كان ينتج في دول الكاريبي، أعطى نكهة جديدة لهذه المشروبات لتتلاءم مع أذواق كثيرة ومختلفة، وإن السجائر التي كانت تنتج في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة، دخلت ضمن الصناعات الكبيرة المتكاملة مع الشاي والقهوة والسكر.

هذا الجو هو الذي دفع الإنسان الأوروبي إلى أن يبدأ مجموعة من النقاشات الفكرية والسياسية والأخلاقية في هذه المقاهي، وينتبه إلى حاجة مجتمعه وجهوزيته لمثل هذه النقاشات. هذه النقاشات والجدالات تولّدت منها أفكار، وبُنيت من خلالها علاقات إنسانية واجتماعية بين مجالات مختلفة من العلماء والمفكرين، وبين مفكرين من اتجاهات مختلفة على المستوى الفكري وعلى المستوى الإنساني أيضاً. الأفكار هنا لا تولد على طريقة أرخميدس (لقد وجدتها)، بل عبر عملية طويلة من النقاشات، تراود فيها الأفكار المختلفة بعضها البعض، وربما بعد قصة حب قصيرة، أو بعد صراع وخصام لفترة طويلة، أو بعد لقاء وحب من أول نظرة، تمتزج الفكرتان في تزاوج جميل يفضي إلى مولود جديد هو فكرة تغيير وجه العالم.

بهذه الطريقة بدأت تظهر مجموعة من أهم كتابات عصر التنوير، وأهم رموز عصر التنوير الذين نوقشت كتبهم وآراؤهم على المقاهي كما كانت تناقش في الجامعات.

أزعم أن ما حدث في أوروبا يحدث الآن في العالم العربي، ولكنه يحدث على فيسبوك، فالمقاهي العربية ليست قريبة الشبه بما نتحدث عنه في أوروبا. حمزة نمرة عندما غنى المقهى، قال: "إن على القهوة ناس قاعدة تدوق طعم الوطن"! ورغم أن بعض المقاهي شهدت في العالم العربي مولد نقاشات لأدباء ومفكرين عظام، كما حدث مثلاً مع نجيب محفوظ وشلة الحرافيش، لكنها لم تتحول في النهاية إلى ظاهرة عامة. البديل الآن أن شباباً عربياً كثير العدد يقضي وقته كل يوم بعد العمل أو أثناءه، وربما بسبب عدم وجود عمل في الأساس، على فيسبوك. معظمهم في الدردشة وفي الألعاب، أو متابعة الصفحات خفيفة المحتوى، لكن على الجانب الآخر من الفيس مجموعة من الشباب من مختلف الاتجاهات الفكرية والاهتمامات جعلت الفيس مكانها المفضّل لإطلاق الأفكار والحوارات المختلفة، وطرح أسئلة عميقة، مستخدمين في ذلك "لينكات" الفيديو من اليوتيوب وآلاف المقالات في المجال نفسه، سواء كانت مترجمة أو بلغتها الأصلية، متواصلين بصفة شبه يومية مع آخر ما تقدمه الحضارة الإنسانية من أفكار.. ورغم أن هذا ليس بالمكان الملائم لطبيعة الفيس، لكن الردود القصيرة المركزة القادمة من مهتمين بالموضوع نفسه من مختلف أنحاء الوطن العربي، كوَّنَ، مع مرور الوقت، مجموعات متداخلة تعرف بعضها البعض جيداً، ربما دون أن يلتقوا في الواقع، في نقاش دائم عميق ومركّز حول أفكار هي اهتمامهم المشترك، وعلى هامش هذه الحوارات يقف الآلاف مراقبين وقارئين ومتأثرين.

إن هذا التلاقح بين الأفكار هو أفضل آلية لبدء عصر أنوار حقيقي في الوطن العربي، وربما يأتي زمان يقول فيه القائل لقد أسقط فيسبوك طغاة العرب (مبارك والقذافي.. إلخ)، وكان المكان الذي بدأ فيه عصر التنوير العربي!


(مصر)

المساهمون