بدأت أمس الثلاثاء في واشنطن اجتماعات مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، التي تختتم أعمالها اليوم الأربعاء ويفترض أن يتم الإعلان في نهايتها عن قرار لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية فيما يخص معدلات الفائدة على أموال البنك، والتي تتوقع الأسواق، على نطاق واسع، أن يتم تخفيضها للمرة الثانية على التوالي، بعد أن خفضت اللجنة السعر بمقدار ربع بالمائة، أو 25 نقطة أساس، في نهاية يوليو/تموز الماضي.
ويوم الخميس الماضي، ووسط مخاوف من تباطؤ اقتصادي عالمي، ظهرت علاماته في أغلب الاقتصادات المتقدمة، ومنها دول الاتحاد الأوروبي، ومع تصاعد التوتر من التأثير السلبي للحروب التجارية، خفض البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة لديه لتصبح سالب نصف بالمائة، وأعلن عن نيته بدء برنامج جديد للتيسير الكمي، أي شراء سندات الحكومات الأوروبية، فيما يمثل ضغطاً إضافياً باتجاه تخفيض معدلات الفائدة هناك.
وفي أعقاب خطوة المركزي الأوروبي، أعلن بنك اليابان المركزي انفتاحه على تخفيض معدلات الفائدة هو الآخر، رغم كونها تحت الصفر أيضاً، استجابةً للضغوط المتزايدة، التي يأتي الخوف من ركود اقتصادي عالمي على رأسها. ورغم أن البنك لن يتخذ على الأغلب قراراً بالتخفيض في اجتماعات 18 – 19 سبتمبر الجاري، إلا أن المؤشرات تؤكد أنه سيتجه للخفض في الاجتماع التالي أواخر أكتوبر/تشرين الأول.
ورغم قيام البنك الفيدرالي الأميركي بتخفيض معدلات الفائدة في يوليو الماضي، للمرة الأولى في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة، إلا أن رئيسه جيرومي باول لم يسلم من انتقادات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان يطمع في خفض أكبر، وخصوصاً بعدما أكد باول أن تخفيض الفائدة لا يعدو كونه "تخفيضاً وقائياً"، نافياً أن يكون بداية لموجة جديدة، كان البعض ينتظرها، من التخفيضات.
ويضغط ترامب على البنك الفيدرالي، منذ العام الماضي، لدفعه لتخفيض معدلات الفائدة، التي يرى أن مستوياتها الحالية لا تسمح بتحقيق النمو الذي ينشده للاقتصاد الأميركي.
وقبل عشرة أيام من بدء اجتماعاته، أعلن باول أن حالة الاقتصاد ما زالت جيدة، متوقعاً أن تشهد الفترة المقبلة المزيد من "الانتعاش الاقتصادي المتوسط"، ما اعتبره البعض تمهيداً للإبقاء على معدلات الفائدة عند مستوياتها الحالية، بعكس رغبة ترامب.
وفي حديثه للصحافيين في جامعة زيوريخ الأسبوع الماضي، أكد باول ما قاله قبلها بأسبوعين، في اجتماعات رؤساء البنوك المركزية في جاكسون هول، بولاية وايومنغ الأميركية، عن استعداد البنك للتدخل للحفاظ على نمو الاقتصاد الأميركي، إلا أنه، وفي آخر تصريحات صحافية لأي من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية قبل الاجتماعات، أكد أن البنك "لا يتوقع حدوث ركود" قريباً.
وأشار باول أيضاً إلى أحدث البيانات الصادرة عن سوق العمل، والتي تم الإعلان عنها الأسبوع الماضي في واشنطن، وجاء فيها أن الشركات الأميركية أضافت 130 ألف وظيفة غير زراعية خلال شهر أغسطس/آب المنتهي، مؤكداً أن تلك الإضافة تتناسب مع "حالة الاقتصاد وسوق العمل القوية".
ولا يبدو باول سعيداً بالظهور بمظهر من استسلم للضغوط السياسية، كما أنه في نفس الوقت لا يريد استخدام أغلب الأوراق التي في يديه، والتي يراها محدودة جداً في هذه اللحظة، انتظاراً لما سيحدث للاقتصاد الأميركي في الفترة القادمة، بعد أكثر من 120 شهراً من الانتعاش، وتزايد التوقعات باقتراب الركود.
ومع الاضطرابات الحالية في سوق النفط العالمية، بعد تعطل نسبة لا يستهان بها من قدرات الإنتاج السعودية، ربما تسير الأمور باتجاه الإبقاء على معدلات الفائدة الحالية، تحسباً لاحتمالات ارتفاع معدلات التضخم بعد ارتفاع أسعار الوقود.
لكن من ناحيةٍ أخرى، تمثل أسواق الأسهم والسندات الأميركية نوعاً آخر من الضغوط على رئيس البنك الفيدرالي وفريقه، بعد أن بات واضحاً أن أسواق العقود المستقبلية تعكس خفضاً لا يقل عن واحد في المائة، قبل نهاية العام القادم 2020، الأمر الذي يفرض على باول ضرورة الحفاظ على توازن صعب، بين الوفاء بما اعتبرته الأسواق وعداً مسبقاً، مع الالتزام بعدم الإيحاء بتخفيضات أخرى في المستقبل، وهو ما يعطي أهمية كبيرة للمؤتمر الصحافي المنتظر بعد انتهاء الاجتماعات.
الرئيس الأميركي يحاول أن يستمد العون من الاقتصاد الأميركي في الانتخابات القادمة، بعد أن أمضى أغلب فترته الرئيسية الأولى يفتخر بمعدلات النمو القوية وارتفاع البورصة وانخفاض معدلات البطالة.
ويخشى ترامب أن ينقلب السحر على الساحر في المائة متر الأخيرة، بعد أن انخفض الإنفاق الرأسمالي، وتباطأ الإنتاج الصناعي للمرة الأولى في ثلاث سنوات، وتراجعت معدلات الإنتاجية، وارتفع مستوى الدين العام لأعلى مستوياته في التاريخ الأميركي، وتجاوز عجز الموازنة في أول 11 شهراً في السنة المالية الأميركية 1 تريليون دولار، ولم ينمُ الاقتصاد الأميركي خلال الربع الثاني من العام الحالي أكثر من 2 في المائة.
ويرى ترامب وفريقه الاقتصادي أن كل هذه المؤشرات السلبية يمكن تحويلها لإيجابية، على الأقل لشهور قليلة قادمة، لحين الانتهاء من موسم الانتخابات، عن طريق تخفيض معدلات الفائدة.
لكن على الجانب الآخر، ورغم أن باول يدرك غالباً أن تخفيض الفائدة ربما يكون حلاً مؤقتاً بالفعل لكل تلك المشاكل، إلا أنه يعي أيضاً أن استخدام تلك الأداة الآن، وقبل ظهور العلامات الواضحة التي تستدعي استخدامها، ربما تكون له تكلفته العالية على المدى المتوسط والطويل.
لعبة الشد والجذب بين الرئيس الأميركي ورئيس البنك المركزي مستمرة، ولن تنتهي بأي قرار يتم اتخاذه اليوم، ولن ينشغل عنها ترامب بما يحدث في الخليج أو في أي مكان آخر.
فهل يصمد باول أمام ضغوط الرئيس والأسواق، أم تكون الإقالات التي لحقت بكل من عارضوا سياسات ترامب، وأبرزهم وزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية، وكبير المستشارين الاقتصاديين، ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، وغيرهم كثير، عبرة لرئيس البنك، ليتخذ القرار المطلوب اليوم؟