هل كانت غرناطة قادرة على الصمود؟

02 يناير 2016
قصر الحمراء كما يبدو من ربض البيازين(محمد ياسين/العربي الجديد)
+ الخط -
قبل خمسة قرون من الزمن سقطت غرناطة في يد الملوك الكاثوليك الإسبان ليشهد التّاريخ انتهاء فترة سيطرة المسلمين على الأندلس، بعد ثماني مائة عام من التواجد السياسي والإنساني والحضاري هناك، ولطالما تساءلنا: هل كان بإمكان الأندلس أن تصمد؟ هل كانت غرناطة قادرة على تمديد حكم الإسلام في المنطقة؟ هل فعل الأندلسيون ما يجب فعله لوقف العدوان الإسباني على الأراضي الأندلسية المتبقية في حوزة المسلمين؟ هل كان بإمكان بقيّة المسلمين نصرة الأندلسيين للحفاظ على ثغر الأندلس؟


السّقوط بدأ مع الفتح
في الواقع لم يكن سقوط غرناطة إلاّ مثالاً لشجرة سقطت أوراقها وجفّت أغصانها وبقي جذعها ثابتاً يقاوم السّوس حتى أتت ريح هوجاء اقتلعته، قبل أربعة قرون من سقوط غرناطة سقطت أحد أهم ثغور الأندلس وهي مدينة طليطلة فقال الشّاعر:
يا أهل أندلس شدّوا رحالكم...فما المقام بها إلاّ من الغلط
السّلك ينثر من أطرافه وأرى...سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشّر لا يأمن بوائقه...كيف الحياة مع الحيّات في سفط

هذه الأبيات الشعرية عاصرت بداية سقوط المدن الأندلسية المحورية، ولكن السّقوط في الحقيقة كان قد بدأ منذ أن فتح المسلمون الأندلس، فقد كان الفتح سريعاً جداً بشكل جعل بعض المؤرخين المعاصرين يذهب إلى أنّ المسلمين لم يستعملوا القوّة أصلاً في فتح الأندلس، ولكن هذا الفتح لم يكن ثابتاً لأسباب مختلفة أهمّها بداية الانشقاقات في صفوف الفاتحين، أوّلاً بين العرب القيسية واليمنية، ثم بين العرب والأمازيغ، وقد سمحت هذه الاختلافات لقلائل من المقاومين في جبال أستورياس شمال إسبانيا أن يؤسسوا نواة المملكة التي تمكنت من إجلاء المسلمين من الأندلس ثمانية قرون بعد ذلك، وقد توالى سقوط الثغور الأندلسية منذ خسارة معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ/ 732م ولم يتوقف هذا النزيف حتى انتهاء التواجد الإسلامي تماماً بسقوط غرناطة وكان العامل المشترك في كل مرة تسقط فيها مدينة أو حصن أو منطقة هو فتنة داخلية في مملكة الأندلس تتبعها خيانات ومؤامرات وخذلان.

بنو نصر، ملوك غرناطة
لم يكن تاريخ مملكة بني نصر آخر حكّام غرناطة من المسلمين مختلفاً عن تاريخ الأندلس إجمالا، حيث بدأ مؤسّسها محمد ابن الأحمر تاريخ سلالته بالخروج عن سلطة بني هود والتّحالف مع ملك قشتالة مقابل الخضوع شبه التام لسلطة قشتالة، واشترى أمن غرناطة لمدة عشرين سنة مقابل تسليم أرجونة وجيان وقلعة جابر وغيرها من الحصون المنيعة للقشتاليين دون حرب أو مقاومة بل وساهم في حصار إشبيلية وإسقاطها، وكانت هذه الوسيلة التي استطاعت أن تصمد بها مملكة غرناطة لمدة قرنين من الزمّن في وجه الهجمات الصليبية التي لم تتوقف إلا نادراً، حيث كان حكّام غرناطة النصريون يدارون ملوك أراغون وقشتالة في فترات ضعف هاتين الدولتين فيحاربون في أحد الصفيّن ضد الصف الآخر ويمدّونه بالجند والسّلاح والحصون زيادة عن دفع الجزية والرهائن بينما كانوا يلتجئون للمغرب ويطلبون مساندة حكّامه في فترات قوّة الممالك الإسبانية وكثرة هجماتها على مملكة غرناطة، وهكذا كانت مملكة غرناطة تتآكل جزءاً جزءاً إلى أن خسرت كلّ حصونها وقلاعها ولم يبق فيها إلا جزء بسيط شكّل مسرح أحداث آخر عقد في حياة الأندلس الإسلامية.

ظروف السقوط كانت مهيّأة
ساعدت الأوضاع الخارجيّة في جزيرة الأندلس مملكة غرناطة على الثّبات لأكثر من قرنين، حيث كانت الممالك النصرانية في حروب بينية متواصلة ولم تصل بعد إلى القوّة التي تسمح لها بإنهاء التواجد الإسلامي، ولكنّ هذه الظروف الخارجية المواتية انتهت فجأة مع اتّحاد مملكتي قشتالة وأراغون بعد وفاة ملك أراغون، خوان الثاني، سنة 1479م وجلوس ابنه فرناندو على العرش ثم تنصيبه ملكاً على قشتالة إلى جنب زوجته وابنة عمه إيزابيلا، إضافة إلى توقيع معاهدة السلام مع مملكة البرتغال في نفس العام.

أما داخلياً فقد غرقت غرناطة في نزاعات سياسية عنيفة تعدّ امتداداً لسنن الخلع والانقلاب على الحاكم من طرف أبنائه أو أقربائه في دولة بني نصر، فقد أدّى طغيان ملك غرناطة أبي الحسن عليّ بن سعد وانحيازه إلى زوجته الأعجمية ثريا إلى خروج ابنه أبي عبدالله الصغير عليه بتحريض من أمّه عائشة الحرة كما تفرّد أخو الملك أبو عبدالله الزغل ببعض مناطق المملكة كوادي آش وملقة، وانتهت المناوشات بين أفراد العائلة المتخاصمين على السلطة إلى حرب أهليّة جرت وقائعها في قلب مدينة غرناطة ذاتها، فلم تتأخر المملكة الإسبانية الجديدة في استغلال فرصة الانقسام الداخلي في غرناطة، وحلّت كل المواثيق والعهود استغلالاً للعملية الاستعراضية التي قام بها أبو الحسن علي بسيطرته على حصن الصّخرة ثمّ راحت تهاجم المدن الغرناطيّة تباعاً، بينما عجز المتخاصمون في الدفاع عنها بسبب خذلانهم لبعضهم بعضاً وعدم خروجهم أحياناً للدفاع عن حصونهم خوفاً من غدر الآخر.

توقف المدد الخارجي
حاولت مملكة غرناطة طلب النجدة من بقية الممالك الإسلامية، ولكنها لم تلق دعماً حقيقياً نظراً لضعف دول المغرب بسبب النزاعات الداخلية وتحالفها مع النصارى، حيث فرّط بنو وطاس ملوك المغرب في الأندلس وتركوا قضيتها، بينما كان الحفصيّون في تونس في صراع داخلي متواصل جعلهم يفضلون التعاون مع إمارات صقلية وكورسيكا، كما انشغلت مصر بنزاعها مع الدولة العثمانية وكلّ ما قام به المملوك سيف الدين قايتباي هو بعث سفارة إلى الملوك الكاثوليك يدعوهم فيها إلى وقف العدوان على المسلمين في الأندلس ويهددّهم بإيذاء المسيحيين المقيمين تحت حكمه، بينما اهتمت الدولة العثمانية بتحصين حدودها وضمان أمنها خاصة مع كثرة المخاطر التي كانت تتربص بها من طرف المماليك جنوباً والصفويين شرقاً، وقد أرادت فكّ الضغط عن الغرناطيين وإشغال الإسبان عن حربهم فقامت الأساطيل العثمانية بعمل هجومات على صقليّة ونابولي وباقي الأراضي التابعة للعرش الإسباني آنذاك.

النهاية الحتمية
بعد سقوط كل المدن تقريباً وصعود الملك أبي عبدالله الصغير عرش غرناطة ووفاة أبيه أبي الحسن كان عمّه الزغل قد يئس في الدّفاع عن مناطقه ورأى أن يصالح الملوك الكاثوليك على تسليم ما بيده من أراضي وممتلكات عوض مقابل مادي وخروجه إلى المغرب، حيث رحل إلى تلمسان وترك ابن أخيه يواجه سقوط غرناطة بمفرده، فدخل الأخير في مفاوضات مع الملوك الكاثوليك تضمن له حياة كريمة بعد تسليمه لمملكة أسلافه وتضمن للغرناطيين شروطاً كريمة تجنبهم الذّل والظلم انتهت بتوقيع معاهدة تسليم غرناطة في 21 محرم 897هـ الموافق لـ 25 نوفمبر 1491 م، سلّمت غرناطة بعدها للملوك الكاثوليك في مطلع العام الميلادي الجديد من طرف أبي عبدالله الصغير الذي تعرض للطرد من الإقطاعات التي منحت له بعدها بثلاثة سنين وتوجه للمغرب، حيث قضى بقية عمره وبقي أهل غرناطة يواجهون نكث المواثيق والعهود وجور الحكّام الجدد والتنصير القسري.

في الواقع، لم يكن ممكناً أن تصمد مملكة غرناطة في ظل الظّروف السياسية والأمنية التي أحاطت بها وعاصرت جميع فتراتها تقريباً، حيث كانت غرناطة تفتقر إلى كلّ أسباب الصمود، كانت تعاني من فتن سياسية داخلية لا متناهية، وكانت تواجه حرباً مستمرة من طرف الممالك الصليبية التي كانت تسير في منحى تصاعدي أدّى بها بعد الاتحاد إلى تشكيل إمبراطورية ضخمة سيطرت على العالم لمدة تفوق القرن من الزمن، بينما كان العالم الإسلامي القادر على نصرة الأندلس ومساندتها على المقاومة غير مستعد للمجازفة والزج بجيوشه في حروب بعيدة من أجل مملكة لا تقدم أي ضمان سياسي أو عسكري كما كانت أجزاؤه هو الآخر عرضة للهجومات الصليبية والاعتداءات المتواصلة.

وكما قدمت الأندلس عبر ثمانية قرون أجمل صور الحضارة والعمران والانفتاح الاجتماعي فإنّها كذلك أعطت دروساً قاسية في الخيانة والتخاذل والتفريط في الملك، وكانت نهايتها أمراً لا مفرّ منه أخّرته ظروف خارجية كظهور دولتي المرابطين والموحّدين في المغرب، وأخرى داخلية كالصراعات البينية للممالك النصرانية، ليبقى ما خلّفه تاريخها الزّاخر كتاباً مفتوحاً للتعلّم والتّدبر والاعتبار.

(الجزائر)
دلالات
المساهمون