استمّرت ساعة بيغ بن التاريخية بالدوران، ولم تُمنح أية إجازة على الرغم من دأبها المتواصل على العمل منذ قرون. أمس، هبط أربعة عمّال على ارتفاع مائة متر، واستقرّوا فوق واجهتها، بغية تنظيفها من غبار أربع سنوات مضت، وإجراء تصليحات طفيفة عليها.
اعتمر العمّال القبعات الواقية، وشرعوا في تلميع ثلاثمائة واثنتي عشرة قطعة زجاجية، صُنعت منها الساعة الأسطورية، التي انطلقت دقاتها للمرّة الأولى عام 1859.
ولم تخلُ مهمّة هؤلاء من المخاطر. يبلغ طول عقرب الدقائق أربع عشرة قدما، والمسافة بين الأرقام نحو قدمين، أي ما يوازي خمسمائة سنتيمتر، مما استدعى توخّي الحذر من عصف الرياح القويّة، والبقاء بين زوايا السّاعة، كي لا يسقط أحد العمّال في مياه نهر التايمز، أو بحر الشمال المزمجر، تحتهم. أمّا الخطر الرئيسي، فيكمن في حركة الساعة، التي لن تتوقّف حتّى خلال عملية التنظيف.
وتتميّز منطقة ويستمنستر بهذه الساعة، التي تشكّل أحد رموز بريطانيا. ويميل البعض إلى اعتبارها انتصاراً يُسجّل للعهد الفيكتوري، على الرغم من العجز والتأجيل، الذي لحق ببنائها. وكان المهندس، السير شارلز باري، قد أعطى عقد العمل لصديقه بنجامين فوليامي، مما أثار غضب إدوارد دنت، وتفادياً للفضيحة أُعلن عن مسابقة مفتوحة للعامّة.
صمّم إدموند بكيت "بيغ بن" وصنعها دنت، الذي ابتكر نظاماً يعزل عمل السّاعة وحركتها عن الجاذبية، وعن أي تأثير خارجي من خلال فصل البندول، أو رقّاص الساعة، عن عملها الميكانيكي، وتخفيفا للاحتكاك، الذي يبطئ الحركة، رُكّز البندول في صندوق عازل وُضع تحت الساعة في البرج الكبير. وفاز في المباراة وربح ألفاً وثمانمائة جنيه إسترليني، وذلك في عام 1853. ولكنّه توفي بعد مرور عام، وقبل أن ينجز عمله. فأكمله ابنه فردريك عام 1854.
بَيْدَ أنّ بدء تسجيل "بيغ بن" للوقت لم يحدث إلاّ بعد مرور أربع سنوات، حين اكتمل إنشاء البرج.
وفي عام 1859، تأرجحت السّاعة بسبب ثقل العقربين، فاستبدلا برقاصين أخف وزناً. أمّا الجرس السّابق، البالغ ستة عشر طنا، فانكسر عند الاختبار الأول، بينما بقي الثاني، البالغ ثلاثة عشر طنا، لغاية اليوم، يُسمعنا رنينه المميّز، بسبب تصدّعه بعد أربعة أشهر من نصبه.
وتعتبر هذه الساعة من آثار بريطانيا، التي شهدت حروبها وانتصاراتها والثورات الشعبية، التي أطاحت بطغيان ملوكها.
لم تصمت "بيغ بن"، بل نطقت وفضّلت الكلام، حتى ولو بلغة لا نفهمها، وعبّرت، بلغتها ومن خلال رنين جرسها وتكتكات عقربيها، عن فرحها أو غضبها ممّا يحدث يوميّاً في العاصمة، لندن، بل وفي العالم.
ويعود اسم "بيغ بن" إلى حجم الجرس بالأساس. أمّا اليوم فيستخدم للدلالة عليه، وعلى برج "سانت ستيفنز"، حيث تسكن السّاعة. وتختلف الروايات حول تسميتها.
قاومت "بيغ بن" عشرات القذائف، من الجانب الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. ولم تثنها عن الحركة سوى الثلوج المتراكمة عام 1962، التي أخّرت جرسها عشر دقائق، إضافة إلى مشاكل ميكانيكية أوقفتها ثلاث مرّات عن مواكبة الزمن، مرّة في عام 1976 ومرّتين في عام 1997.
ولا يمكن الاعتماد على "بيغ بن" رغم دقّتها، إذ يُقال إنّها توّقفت مرّات عن الدوران. ولكنّها تبقى أحد الآثار الهامّة في المملكة.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2013، ضُخّت أطنان من الجص تحت برج الساعة لإيقافها عن التأرجح، خلال فترة التنقيب لتمديد خط أنفاق "جوبيلي". وتحرّك البرج بين سبعة عشر وخمسة وعشرين ملليميتراً، وأكّد الخبراء غياب أي احتمال لانهياره. ويتأرجح برج "بيغ بن" تسعة ملليمترات في العام، بسبب العوامل الطبيعية، ويميل بشكل طفيف إلى الشمال الغربي.