19 ابريل 2021
هل خرجت واشنطن من سورية؟
هل تقف واشنطن جانبا في سورية، وتكتفي بمراقبة الأحداث المرعبة عن بعد، كما يقال غالبا عند النظر إلى سياساتها تجاه الوضع السوري الراهن؟ وهل تمارس مواقف متباينة من أطراف الصراع السوري، أم تتخذ موقفا موحدا منها، هو ذلك الذي يبقيها خارجه، غير معنيةٍ بنتائجه أو مكترثة بنهاياته؟ أخيرا، هل صحيح أنها تمارس سياسات التفافية حيال الصراع الدائر فيها، تكل حله إلى روسيا التي تعهدت أن تضمن مصالحها، من دون أن تلوث أيديها بدماء الشعب السوري، تاركة لموسكو عار التدخل العسكري والغزو البري، وخلاصاته الدامية، وما تلحقه بجيشها من خسائر جسيمة، تتجاوز أرقامها أي توقع، في أكثر من موقع، بين تدمر ومطار التيفور؟
ليس من المنطقي الاعتقاد بالخروج الطوعي لدولةٍ كونيةٍ، اسمها أميركا، من الصراع على (وفي) سورية الذي سيحدد مصير الشرق الأوسط، وأحجام دوله وأوزانها وأدوارها إلى فترةٍ، يرجح أن تتجاوز منتصف قرننا الحالي. ومن السذاجة الاعتقاد أن البيت الأبيض الأوبامي أو الترامبي لا يعرف الأهمية الاستراتيجية لسورية والمنطقة، بالنسبة إلي أحجام الدول الكبرى والعظمى وأدوارها وأوزانها، وأن مستشاري البيت الأبيض وخبراءه لم يجهلوا تاريخ صراع
الإمبراطوريات من أجل السيطرة على موقعها. ومن المثبت بالنصوص أن زبغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس كارتر، كتب عام 1973: إن سيطرة أميركا على المجال الأوراسي ستكون هشّة ومهدّدة، إذا لم تمسك بقوة بالعراق: درة العالم الاستراتيجية، حسب تسميته. ومن المعروف ان أول محاولة تمت، في هذا الاتجاه، كانت غزو العراق عام 2003، بعد ثلاثين عاما من مطالبة بريجنسكي باحتلاله، وأننا نعيش اليوم المحاولة الثانية، ومن مفرداتها عودة قوة أميركية كبيرة نسبيا إلى العراق، ومشاركتها في الحرب ضد "داعش"، وإعلان قادتها أنها باقية هناك بعد نهاية معركة الموصل، وكذلك إقامة بنية عسكرية تحتية، يقيمها الجيش الأميركي شمال العراق، آخرها إنجازاتها مطار جديد تقرّر بناؤه جنوب الموصل، يكمل مجموعة مطارات أقامها شمال سورية، في منطقةٍ تطل عن كثب على شمال العراق وغربه، تحتل قسما كبيرا منها "داعش"، لكن الأميركيين يخرجونها منها قطعة بعد أخرى، من خلال "قوات حماية الشعب"، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، ويؤسسون وجودا ثابتا ودائما فيها، يتمثل في ثلاثة مطارات، وعدة مواقع تدريب يرابط فيها المئات من "مستشاريهم"، ويزورها، من حين إلى آخر، جنرالات وبرلمانيون، آخرهم قائد المنطقة الوسطى والسيناتور الشهير، جون ماكين، الذي ناصر دوما ثورة سورية ضد الأسد ونظامه، وها هو يحل اليوم ضيفا على جهةٍ معادية لها، تتعاون مع أمن الأسدية وجيشها، يبقي استثناؤها من الدعوة إلى جنيف مصيرها بيد واشنطن، وجزءا لا بأس به من مصير سورية بيد قادتها.
بينما يغرق الروس في صراعٍ لا يعرفون نهايته، وليس مؤكدا بعد إن كانوا سيخرجون رابحين منه، وبينما يخوضون معارك مكلفة بشريا، يتحفظون إلى اليوم عن إعلان معظمها، تستنزفهم سياسيا ودوليا، علما أن مفاتيح إنهائه ليست في يدهم، بل في يد واشنطن التي تستطيع تحدي وجودهم العسكري في المشرق العربي بطرق فاعلة ومتنوعة، تجعلهم يتمنون لو أنهم لم يتورّطوا مع الأسد، ولم يغزوا سورية ويبقوا عسكرهم فيها، تبني واشنطن وجودا عسكريا طويل الأمد في منطقةٍ تطل على تركيا والعراق ووسط سورية وجنوبها، وغير بعيدة عن غرب إيران، يعني الإمساك بها إمساكها بفرص الحل السوري، وبنمط الدولة السورية القادمة وهويتها وأدوارها ودرجة استقلاليتها، وتحكمهما أيضا بالقضية الكردية التي تتيح لها تدخلا مفتوحا في الشؤون الإيرانية والتركية والعراقية، فضلا عن السورية، بالنظر إلى أن وجود تركيا وإيران والعراق وسورية دولا مستقلة وموحدة، يتوقف على طريقة حلها، في حين يعني وضع واشنطن في المنطقة التي تتوسط هذه الدول منحها القدرة على ممارسة نفوذ حاسم عليها، واختراق المنطقة بين شرق المتوسط وأفغانستان بعمق، وإشرافها على مفاصلها الاستراتيجية بما تمتلكه من تقنيات مراقبة وسيطرة فاعلة ومتطورة، وتحقيق نقلة استراتيجية وتاريخية بالنسبة لسيطرتها على منطقةٍ يضمن تحكمها فيها تعزيز قبضتها على مجمل المجال الأوراسي (الأوروبي/ الآسيوي)، الذي يخضع لها أول قوة في التاريخ تسيطر عليه من خارجه.
بينما يتخبط الروس في صراع متعدّد الأطراف ومعقد، يتصل بالسيطرة على بلادٍ لن تتمكن من الإمساك بها، وستواجه دوما قيودا دولية وعربية وإقليمية جدية على دورها فيها وتحكمها بمكوناتها، وستجد نفسها مجبرةً على تقديم تنازلات لأميركا وإجراء حلول وسط وتسويات، أقله مع تركيا وإيران، القوتين الإقليميتين المنخرطتين في الصراع عليها، وعلى خوض حرب متشعبة ضد إرهاب متحول/ متنقل، لا يكفي عنفها للقضاء عليه، تنصرف أميركا، القادرة بكل تأكيد على خربطة معادلات موسكو، إلى تأسيس موقع وطيد لنفوذها وحضورها في منطقة حاكمةٍ لا يشاركها فيها أحد، يمدها إمساكها بها بقدرة مفتوحة على امتلاك خيارات عديدة، تخدم مصالحها خارجها ووجودها داخلها، يرجح ألا يكون لغيرها سيطرة تذكر على أطرافها،
مستقبلا، بالنظر إلى قدرات واشنطن الترهيبية والترغيبية، وتحكمها بها من خلال وجودها العسكري المباشر في قلب مناطقها، وما لها من قدراتٍ سياسية فيها، يتوقف عليها مصير مكوناتها الديمغرافية والسياسية.
ليست واشنطن خارج الصراع، بل هي في صلبه، ولكن بطرقها الخاصة. وليست موسكو من يقرّر مصيره، بل هي مرشحة دائمة لأن تكون من ضحاياه، مباشرة أو على المدى البعيد، حسب ما تقرّره أميركا. ولن يفلت حصاد الوضع الراهن من اليد الأميركية التي تنفذ خططا من شأن نجاحها إخضاع المنطقة لإشرافها إلى فترة طويلة، بينما يعني فشل موسكو في الانفراد التام بسورية كارثة ستحل بها، على صعيدي الزمن والاستراتيجية، بينما هي تقف على ساقٍ واحدة في وضعها الراهن، بصحبة حلفاء/ أعداء كإيران ومرتزقتها، ونظام أسدي يطلب عونها العسكري، ويستقوي بإيران على حصائله السياسية، تحاول إدارة صراع على درجة استثنائية من التعقيد، ليس الأساسي من مفاتيحه في يدها، ولن تنتزعه من واشنطن بغير صدامٍ، ليست قادرة على خوضه، يرجح أن تتحاشاه عبر تنازلاتٍ تقدمها لأميركا مقابل مساعدتها على بلوغ بعض أهدافها، وترويض إيران والأسد وتركيا، والخروج بالتالي من وضعها الراهن بحصة يتوقف حجمها على حجم ما تقدمه من تنازلاتٍ، تحد من النزيف البشري والاقتصادي، الذي بدأت تعاني منه، وإلا فإن إقامتها المكلفة في سورية ستستمر فترة طويلة، لن يحول شيء دون تردّي وضعها خلالها من يوم إلى آخر، إن أرادت أميركا له أن يتردّى.
يضع الأميركيون أحجار الأساس لتفوق استراتيجي باسم عدم التدخل، ويغرق الروس في صراعٍ أعلن بوتين أنهم لن ينخرطوا فيه أكثر من أشهر ثلاثة، أو ستة على أبعد تقدير، وها هم اليوم في شهره السابع عشر، من دون أن يبلغوا ما يشير إلى نجاحهم في إنجاز هدفهم المعلن: ترسيخ السلطات الشرعية.
أخيرا، يواجه السوريون الخطر الروسي، لاعتقادهم أنه التحدّي الأكبر المطروح عليهم، بينما تبني واشنطن أوضاعا تضمر مخاطر وجودية على دولتهم ومجتمعهم، أكبر بكثير من التي يحملها غزو روسي، استعماري من النمط الكلاسيكي. بينما يعمل الأميركيون في عصر إمبريالي يسيطرون عليه بوسائل وطرق شديدة التنوع، يحتوون بواسطتها أخطاءهم ويحققون مآربهم.
ليس من المنطقي الاعتقاد بالخروج الطوعي لدولةٍ كونيةٍ، اسمها أميركا، من الصراع على (وفي) سورية الذي سيحدد مصير الشرق الأوسط، وأحجام دوله وأوزانها وأدوارها إلى فترةٍ، يرجح أن تتجاوز منتصف قرننا الحالي. ومن السذاجة الاعتقاد أن البيت الأبيض الأوبامي أو الترامبي لا يعرف الأهمية الاستراتيجية لسورية والمنطقة، بالنسبة إلي أحجام الدول الكبرى والعظمى وأدوارها وأوزانها، وأن مستشاري البيت الأبيض وخبراءه لم يجهلوا تاريخ صراع
بينما يغرق الروس في صراعٍ لا يعرفون نهايته، وليس مؤكدا بعد إن كانوا سيخرجون رابحين منه، وبينما يخوضون معارك مكلفة بشريا، يتحفظون إلى اليوم عن إعلان معظمها، تستنزفهم سياسيا ودوليا، علما أن مفاتيح إنهائه ليست في يدهم، بل في يد واشنطن التي تستطيع تحدي وجودهم العسكري في المشرق العربي بطرق فاعلة ومتنوعة، تجعلهم يتمنون لو أنهم لم يتورّطوا مع الأسد، ولم يغزوا سورية ويبقوا عسكرهم فيها، تبني واشنطن وجودا عسكريا طويل الأمد في منطقةٍ تطل على تركيا والعراق ووسط سورية وجنوبها، وغير بعيدة عن غرب إيران، يعني الإمساك بها إمساكها بفرص الحل السوري، وبنمط الدولة السورية القادمة وهويتها وأدوارها ودرجة استقلاليتها، وتحكمهما أيضا بالقضية الكردية التي تتيح لها تدخلا مفتوحا في الشؤون الإيرانية والتركية والعراقية، فضلا عن السورية، بالنظر إلى أن وجود تركيا وإيران والعراق وسورية دولا مستقلة وموحدة، يتوقف على طريقة حلها، في حين يعني وضع واشنطن في المنطقة التي تتوسط هذه الدول منحها القدرة على ممارسة نفوذ حاسم عليها، واختراق المنطقة بين شرق المتوسط وأفغانستان بعمق، وإشرافها على مفاصلها الاستراتيجية بما تمتلكه من تقنيات مراقبة وسيطرة فاعلة ومتطورة، وتحقيق نقلة استراتيجية وتاريخية بالنسبة لسيطرتها على منطقةٍ يضمن تحكمها فيها تعزيز قبضتها على مجمل المجال الأوراسي (الأوروبي/ الآسيوي)، الذي يخضع لها أول قوة في التاريخ تسيطر عليه من خارجه.
بينما يتخبط الروس في صراع متعدّد الأطراف ومعقد، يتصل بالسيطرة على بلادٍ لن تتمكن من الإمساك بها، وستواجه دوما قيودا دولية وعربية وإقليمية جدية على دورها فيها وتحكمها بمكوناتها، وستجد نفسها مجبرةً على تقديم تنازلات لأميركا وإجراء حلول وسط وتسويات، أقله مع تركيا وإيران، القوتين الإقليميتين المنخرطتين في الصراع عليها، وعلى خوض حرب متشعبة ضد إرهاب متحول/ متنقل، لا يكفي عنفها للقضاء عليه، تنصرف أميركا، القادرة بكل تأكيد على خربطة معادلات موسكو، إلى تأسيس موقع وطيد لنفوذها وحضورها في منطقة حاكمةٍ لا يشاركها فيها أحد، يمدها إمساكها بها بقدرة مفتوحة على امتلاك خيارات عديدة، تخدم مصالحها خارجها ووجودها داخلها، يرجح ألا يكون لغيرها سيطرة تذكر على أطرافها،
ليست واشنطن خارج الصراع، بل هي في صلبه، ولكن بطرقها الخاصة. وليست موسكو من يقرّر مصيره، بل هي مرشحة دائمة لأن تكون من ضحاياه، مباشرة أو على المدى البعيد، حسب ما تقرّره أميركا. ولن يفلت حصاد الوضع الراهن من اليد الأميركية التي تنفذ خططا من شأن نجاحها إخضاع المنطقة لإشرافها إلى فترة طويلة، بينما يعني فشل موسكو في الانفراد التام بسورية كارثة ستحل بها، على صعيدي الزمن والاستراتيجية، بينما هي تقف على ساقٍ واحدة في وضعها الراهن، بصحبة حلفاء/ أعداء كإيران ومرتزقتها، ونظام أسدي يطلب عونها العسكري، ويستقوي بإيران على حصائله السياسية، تحاول إدارة صراع على درجة استثنائية من التعقيد، ليس الأساسي من مفاتيحه في يدها، ولن تنتزعه من واشنطن بغير صدامٍ، ليست قادرة على خوضه، يرجح أن تتحاشاه عبر تنازلاتٍ تقدمها لأميركا مقابل مساعدتها على بلوغ بعض أهدافها، وترويض إيران والأسد وتركيا، والخروج بالتالي من وضعها الراهن بحصة يتوقف حجمها على حجم ما تقدمه من تنازلاتٍ، تحد من النزيف البشري والاقتصادي، الذي بدأت تعاني منه، وإلا فإن إقامتها المكلفة في سورية ستستمر فترة طويلة، لن يحول شيء دون تردّي وضعها خلالها من يوم إلى آخر، إن أرادت أميركا له أن يتردّى.
يضع الأميركيون أحجار الأساس لتفوق استراتيجي باسم عدم التدخل، ويغرق الروس في صراعٍ أعلن بوتين أنهم لن ينخرطوا فيه أكثر من أشهر ثلاثة، أو ستة على أبعد تقدير، وها هم اليوم في شهره السابع عشر، من دون أن يبلغوا ما يشير إلى نجاحهم في إنجاز هدفهم المعلن: ترسيخ السلطات الشرعية.
أخيرا، يواجه السوريون الخطر الروسي، لاعتقادهم أنه التحدّي الأكبر المطروح عليهم، بينما تبني واشنطن أوضاعا تضمر مخاطر وجودية على دولتهم ومجتمعهم، أكبر بكثير من التي يحملها غزو روسي، استعماري من النمط الكلاسيكي. بينما يعمل الأميركيون في عصر إمبريالي يسيطرون عليه بوسائل وطرق شديدة التنوع، يحتوون بواسطتها أخطاءهم ويحققون مآربهم.