لن تكون مهمة المعارضة السورية سهلة خلال أول اجتماعٍ للجنة الدستورية السورية في مدينة جنيف السويسرية تحت رعاية وإشراف الأمم المتحدة، اليوم الأربعاء، في ظل سيناريوهات عدة لما سيُناقش على طاولة الاجتماعات، في ظل تضارب المطالب بين كتابة دستور جديد لسورية، أو تعديل الدستور الحالي (دستور 2012)، وقد تخرج في مقبل الأيام من عمل اللجنة خياراتٌ إضافية أخرى.
لا شك في أن "هيئة التفاوض العليا" السورية التي اجتمعت مطولاً بقائمة المعارضة في اللجنة الدستورية في العاصمة السعودية الرياض خلال الشهر الحالي، عمدت إلى تحضير أعضاء اللجنة من هذه القائمة لمواجهة احتمالات قد يفرضها الواقع في جنيف، والتي تتعلق بقبول إجراء تعديلاتٍ على دستور العام 2012، في حال فشلهم (أعضاء اللجنة من المعارضة) بفرض رؤيتهم لصياغة دستور جديد للبلاد.
وفي حال مواجهة هذا السيناريو، ستكون أمام أعضاء لائحة المعارضة وبعض المتوافقين مع رؤيتهم من ممثلي المجتمع المدني (القائمة الثالثة)، مهمةٌ صعبة لإدخال تعديلات جوهرية على دستور 2012، ولا سيما في المواد والبنود المتعلقة بشكل نظام الحكم (رئاسي، شبه رئاسي، برلماني)، وشكل إدارة الدولة (مركزية، لا مركزية، فدرالية)، وصلاحيات رئيس الجمهورية السورية، خصوصاً في ما يتعلق بتعيين رؤساء السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، والفصل بينها. كما ترتبط التعديلات المهمة بتعيين كبار الموظفين في الدولة، أو إصدار المراسيم واقتراح القوانين، ومصادر التشريع وآلية الرقابة على دستورية القوانين، بالإضافة إلى مناقشة مواد هامة كالدين الذي ينتمي إليه رئيس الدولة، وضمان توزيع الثروات في البلاد وغيرها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض المبادئ في الدستور السوري الحالي لا تشكل خلافاً كبيراً بين المعارضة والنظام، كبعض المبادئ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ويعطي الدستور الحالي لسورية، الذي يعتمد النظام الرئاسي المطلق، سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، الذي يركّز بيديه السلطات الثلاث من دون الفصل بينها على أي مستوى. ويعتمد الدستور أيضاً المركزية الكاملة كشكل لإدارة الدولة، ما يُشعر بعض المناطق في الأطراف، أو تلك البعيدة عن المركز، بالغبن أو التهميش، كما يتيح الدستور للرئيس سنَّ القوانين وإصدار المراسيم من دون الرجوع – أو برجوع شكلي - إلى البرلمان لتمريرها. وعلاوةً على ذلك، يستطيع الرئيس السوري وجهاز الحكم القفز فوق كل مواد الدستور، ويسنده في ذلك رئاسته لـ"مجلس القضاء الأعلى"، ما يشكل انتهاكاً دستورياً صارخاً.
وأمام المعارضة السورية خياراتٌ أوسع من القبول بتعديل مواد الدستور الحالي، وذلك من خلال طرح دساتير سورية سابقة للمناقشة والاستئناس بموادها، قبل الذهاب إلى المواجهة الأكبر بصياغة دستور جديد؛ فبحسب الفقرة الثامنة من المادة الأولى للائحة القواعد الإجرائية التي أقرّتها الأمم المتحدة لعمل اللجنة الدستورية السورية، لهذه اللجنة "أن تراجع دستور 2012، بما في ذلك في سياق التجارب الدستورية السورية الأخرى، وأن تقوم بتعديل الدستور الحالي أو صياغة دستور جديد". وبحسب مضمون هذه الفقرة، يحقّ لأعضاء اللجنة وضع دستور العام 1950، والذي يعرف أيضاً بـ"دستور الاستقلال"، على طاولة البحث والنقاش، وهو النموذج الذي تُجمع شريحةٌ كبيرة من السوريين على أنه من أفضل الدساتير التي حكمت سورية قبل وصول حزب البعث والنظام الحالي إلى السلطة عام 1963.
ورأى المحامي والقانوني إدوار حشوة، وهو أحد أعضاء لائحة المعارضة للجنة الدستورية، أن دستور 1950 هو الدستور "الشرعي الوحيد" الذي مرّ عليه تاريخ البلاد. وأوضح حشوة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "إذا طرحوا (النظام) علينا دستورهم على أنه الشرعي، فيجب علينا أن نواجههم بدستور 1950، لأنه الدستور الشرعي الوحيد الذي وضعته جمعية تأسيسية منتخبة واغتاله انقلاب أديب الشيشكلي (1951)، ثم أعاده الشعب، ثم ألغاه انقلاب الوحدة وأعاده انقلاب الانفصال جبراً، ثم ألغاه انقلاب 8 آذار (1963)". واعتبر أن "كل الدساتير التي وضعت من قبل العسكر، لم تضعها جمعية تأسيسية منتخبة"، وأن "كل الاستفتاءات مزورة بنسبة 99 في المائة، لذلك فإن موضوع شرعية دستور النظام ملتبس، ونطالب بإعادة دستور 1950 للفترة الانتقالية، على أن تضع الدستور الجديد جمعية تأسيسية، أو تصوت على الدستور المقترح من اللجنة، على أن يعرض لاحقاً لاستفتاء الشعب تحت إشراف دولي".
وأشار حشوة إلى أن "هناك خلافاً أساسياً مع دستور 2012، يتعلق برفضنا كونه دستوراً رئاسياً أنتج حكماً ديكتاتورياً لا نريد تكراره، واعتمد واضعوه على مواد عجيبة مفككين بعضها، فالمادة 114 من هذا الدستور تسمح للرئيس أن يفعل ما يشاء دون حدود، وتمنحه صلاحيات لم يملكها أي فرعون في التاريخ". وتنصّ المادة 114 من دستور عام 2012، على أنه "إذا قام خطر جسيم يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة استقلال أرض الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر".
ورداً على سؤال لـ"العربي الجديد" يتعلق بمدى تبدل شكل الحال بما يفضي لانتقال حقيقي نحو الديمقراطية، إذا ما سلكت التغييرات المطلوبة فعلاً طريق النجاح، اعتبر المحامي والقانوني السوري نفسه أنه "لا يمكن هنا التفصيل، ولكن إذا تمّ شطب بعض المواد وتعديلها مع بقاء النظام الرئاسي، لتستهدف تحويل النظام من رئاسي كامل الى مختلطٍ يخفف صلاحيات رئيس الجمهورية التشريعية والتنفيذية لصالح دور متقدمٍ للبرلمان، وتأكيد فصل السلطة القضائية عن الرئيس، ومنح صلاحية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية للبرلمان، وإسناد قيادة الجيش لمجلس عسكري يُعيّنه البرلمان، فتصبح قيادة الرئيس للجيش رمزية ومحدودة ومرتبطة بموافقة البرلمان والمجلس العسكري، بحيث تنتفي الفردية في مسائل الحرب والسلم، هكذا سيكون هناك انتقالٌ نحو الديمقراطية بكل تأكيد".
ولدى طلب "العربي الجديد" من القانوني محمد علي الصايغ، وهو أيضاً أحد أعضاء لائحة المعارضة للجنة الدستورية عن "هيئة التنسيق" رأيه في هذا الجانب، أحالنا الأخير إلى صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" التي ضمنها وجهة نظره في هذا الإطار من خلال منشورات عدة. وأشار الصايغ إلى أن "النظام حاول أن يسير بمنهجية إجراء تعديلات دستورية، إلا أن القواعد الإجرائية التي وافقت عليها أطراف اللجنة الدستورية كافة، تنصّ على إصلاحات دستورية، وعلى دستور جديد في مواضع أخرى". ولفت إلى "وجود فرقٍ بين التعديلات الدستورية التي حاول النظام مراراً وتكراراً التمسك بها، لأنها تعني تعديلات على دستور 2012، وبين الإصلاحات الدستورية التي ستعتمد على كافة الدساتير السورية وغير السورية في إنجاز الدستور، ما يعني عدم الالتزام فقط بتعديلات على دستور 2012".
ويصف الصايغ دستور 2012 بأنه يتضمن "صلاحيات الآلهة"، لكنه يرى، على الرغم من ذلك، أن دستور 1950 "غير متوافق عليه"، وأنه "في حال بُحث إقراره، سيتطلب ذلك تعديلات ومفاوضات مع كل الأطراف، تقود إلى أنهم فعلياً سينجزون دستوراً جديداً اعتماداً على دستور 1950".
ولمّح الصايغ إلى أن المبادئ الـ12 التي قدمها المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا للمعارضة والنظام، خلال الجولة الثامنة من مباحثات جنيف السورية، والتي عرفت أيضاً بـ"المبادئ الـ12 الأساسية والحيّة للأطراف السورية" ستعتبر "الهيكل الأساسي لأي دستور تتم صياغته، وهي مبادئ مفتاحية وفوق تفاوضية، وقد ثبّت خلفه غير بيدرسون في مطالعته أمام مجلس الأمن الدولي، وفي القواعد الإجرائية، التمسك بها".
وتشير المبادئ الـ12 التي قدمها دي ميستورا، إلى "الاحترام والالتزام الكامل بسيادة سورية، وحقّ تقرير الشعب السوري وحده مستقبل بلده بالوسائل الديمقراطية وعن طريق صناديق الاقتراع، ويكون له الحق الحصري في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي". كما تؤكد أن تكون سورية أو الجمهورية العربية السورية "دولة ديمقراطية"، وأن يكون لها "جيش قوي وموحد يقوم على الكفاءة ويمارس واجباته وفقاً للدستور ولأعلى المعايير"، وأن "تعتز سورية بمجتمعها وهويتها الوطنية وبتنوعها الثقافي التاريخي، وبالإسهامات والقيم التي جلبتها لها كل الأديان والحضارات والتقاليد، بما في ذلك التعايش بين مختلف مكونات الشعب".
وليس بعيداً عن الموقفين السابقين، رأى الحقوقي السوري علي الزير، الذي يرأس "التحالف المدني من أجل العدالة"، أن دستور عام 2012 يحتاج إلى نسف وإعادة صياغة، لا سيما في ما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية".
ودعا الزير، في حديث لـ"العربي الجديد"، ممثلي المعارضة داخل اللجنة الدستورية، إلى "العمل على تعديل العديد من المواد". وأعطى مثالاً على هذه المواد، "ما يتعلق بالحريات، حيث إن الدستور الحالي أحال أمر تنظيمها إلى القانون، ما أفرغها من مضمونها الحقيقي، وأيضاً في ما يخص السلطات التشريعية لرئيس الجمهورية، التي تضاهي السلطة التشريعية لمجلس الشعب (البرلمان)، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ الرقابة الدستورية عن طريق هيئات مستقلة غير مرتبطة بالسلطة التنفيذية". وفي هذا الصدد، رأى أن هذه الرقابة "يجب أن تأخذ شكلين، سابقة ولاحقة، والأهم هو التشديد على استقلال السلطة القضائية، والنص على آليات حقيقية تضمن هذا الاستقلال، الذي يجب ألا يكون شكلياً كما هو الوضع الحالي".
ولفت الزير إلى أنه "صحيح أن أي عملية تغيير مرتقبة تبدأ بإيجاد النصّ، لكن من دون أن تقف عنده، بل لا بد من تفكيك المنظومة الأمنية المرتبطة بالنظام السوري، وإيجاد آليات حقيقية للرقابة وتفعيلها كي تأخذ دورها بالكامل"، معرباً عن اعتقاده أن "البدء بعملية عدالة انتقالية حقيقية في سورية، سيكون بمثابة صافرة البداية للانتقال التدريجي نحو التغيير الجدي في هذا البلد على كل الأصعدة".