هل تستحق الحياة كل هذا الموت؟!

22 أكتوبر 2015
لماذا كل هذا الموت؟ (فرانس برس)
+ الخط -
"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، كلما قرأت هذه العبارة الخالدة أدرك أن تجربة المسيح عليه السلام وربما تجارب الأنبياء كلهم من قبله ومن بعده هي تجارب ناقصة حين نقارن بينها وبين التجربة السورية، شعبٌ كاملٌ يُحارَب محاربةَ نبيٍّ واحدٍ، نبيٍّ يدعو للحرية والكرامة فتتكالب عليه طواغيت الأرض من أقصاها إلى أقصاها، نبيٍّ على يديه تظهر الخفايا، وتتحقق على وقع دمه المعجزات، وتتناهبه الامتحانات في ماله وجسده وأهليه وأرضه، بدأت نبوّته في الوقوف بوجه الطاغوت حين اختارها وكتبها على الحيطان وصاح بها صيحته المدوية: "سورية بدها حرية"، ولأن عبارة كهذي يمكن أن تقوّض مُلك فرعون كان لا بدّ من التنكيل بمرتكبها فكانت المجزرة التي افتتحت تاريخ المجازر السورية من جديد.


ومجزرة تلو مجزرة اعتاد الشعب/ النبيُّ خلالها مجاراة الموت، وقدم له على مذبح الحرية القرابين، حُفرت الأخاديد وأضرمت النار الكبيرة ولم تكن بردا وسلاما، وشُقّت البحار فابتلعت ما ابتلعت، وذبح الأشقاءُ الأشقاءَ ووارتِ الأرضُ جثامينهم، وقدّمَ الآباءُ أبناءهم أضحيات ولم يُفتدوا، وألقت الأمهات أبناءهنّ في اليمّ العظيم فتلقفهم الماء كما لو أنه الأفعى العظيمة، وأكلت السجون خيرة الأبناء وأجملهم، وكانت الهجرة من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.

ما الذي قدمه الأنبياء مجتمعين ولم يقدمه الشعب السوريّ بمفرده؟ 
"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"؛ نعم نعم لأنه ربما مات به أيضا، وهذا ما حصل فعلا حيث فقدَ الناس حياتهم عندما وقفوا على أبواب الأفران ليحصلوا على الرغيف، وعجنوا بدمهم الطازج خبز الحرية، وباء المنتظرون لقمة العيش باليتم والعزاء، حتى كأن البلاد صارت مخبزا كبيرا والكل ينتظر دوره لينال حصته من رغيف الدم، ما لهذا النبيّ لا يفتأ يقدم الدم قربانا؟

وهو الذي يقف الآن صارخا بكل قواه: لم أكن مَلكا أنتجته الحكايات، ولم أرِث مُلكا لأبكيه كالنساء حين لا أستطيع الحفاظ عليه كالرجال، تمرّدت على الراوي وسلكت الطريق التي تودي إلى الهزيمة، منحتُ سيفَ خصمي صدرا تدرب على الطعن، وعينين تجيدان التقاط هشاشة العدوّ أمام براعة الموت، أفنيت سنيّ عمري وأنا أتحضر لهذه اللحظة الفاتكة كأنها قطيع من الذئاب، لكنّ يداً ما كبيرةً غيرت مجرى الحكاية، حيث ارتعد السيفُ بكفّ العدوّ، وارتجفت ذراعه التي لطالما عرفتُها صلبة، وخارت قواه أمام تواطئي مع الموت، لم أهزمه لرغبتي في الحياة بل لرغبة الحياة بي وبكل هذا الموت، فقد كنت قررت أن أمارس دور القتيل، ولوهلة تجاذبتني الاحتمالات بين أن أسند صدري على سيفه وأنهي المعركة لصالحي، أو أن أتركه منهارا وأنسحب من هذه اللعبة حياً مُثقلاً بوجع الهزيمة، ليس أسوأ من أن تتساوى بعينك الحياة مع الموت، والتاريخ مليء بالأحياء الذين واراهم التراب، والحاضر أيضا ممتلئ بالموتى الذين لا يزالون يمشون فوق الثرى.

من أنت الآن وقد رفضك الموت وأغلق بابه معلِّقا إضافتك لروّاده؟ ولفظتك الحياة وأنت تحمل كل هذه الخيبات بين ثناياك، يلقّبك رعاياك بالسيد المنتصر فيما تحمل قلبا غارقا بالهزيمة، الهزيمة ألا تموت حين تموت، وألا تشعر بمتعة الحياة وأنت تدرك أنك قبرٌ متنقّلٌ بين البيوت.

لستُ مَلكا أصيح بالرعية: لستُ الذي تنبأتْ به الروايات؛ غير أنهم يرفعونني على أكتافهم ويهتفون لي. تضيق الرقعة التي ألعب عليها كلما اتسعت احتمالات الحياة أمامي؛ ذلك أن الجنود يتناوبون على الموت ويتراصّون لملء الفراغات، ويتساقطون في مشهد ملحميٍّ، البطولة وسام فضفاض يمنحه الملوك للموتى، والبطولة هالة ضبابية يبددها الأحياء بما يشعلونه من شموع في مواسم الاحتفاء بالموتى، إذاً البطولة تعني الموت، وأنا إلى الآن لم أحرز ولو نصرا واحدا أستطيع من خلاله أن أتبجح أمام مرآتي به، هي التي لا تفتأ تريني حقيقة روحي المكتظة بالذين رحلوا، أحدّقُ في وجهي فأرى الأيتام والأرامل والثكالى يلوحون تلويحة الوداع للذين عبروا مدافعين عن مُلك ومَلك.

هل يستحق الموت كل هذي الحياة؟.. ليس لأجل الخبز وحده يحيا الإنسان.

(سورية)
دلالات
المساهمون