دخل الملف الليبي باحة الصراع المتوسطي المتصاعد بين عدة دول إقليمية ودولية، بعد الهجوم العسكري الواسع الذي شنّه اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومليشياته على طرابلس المدعومة من عدة دول إقليمية ودولية، ما اضطر دولاً أخرى للانخراط في الصراع مثل تركيا، التي ارتبطت باتفاقات مع حكومة الوفاق، المعترف بها دولياً، من بينها الاتفاق البحري الذي رسمت وفقه حدودها المائية مع ليبيا في عرض المتوسط.
ومنذ انهيار مشروع حفتر العسكري في مايو الماضي، بات الملف الليبي ملفاً متوسطياً شديد الحساسية وحاضراً كأساس للتفاهمات الجارية بين موسكو وأنقرة من جانب، والخلافات بين أنقرة والعديد من الدول الأخرى، من بينها فرنسا ومصر واليونان.
محليا لا يعرف حتى الآن ما يدور في كواليس اللقاءات التي يجريها كل من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فائز السراج، الذي استقبل عدة مسؤولين دوليين وسفراء في طرابلس، ورئيس مجلس النواب المجتمع بطبرق عقيلة صالح، الذي أجرى هو الآخر عدة زيارات لعدة عواصم عربية مؤخرا.
في المقابل تبدو المسارات الجارية في عواصم التقارب والخلاف بشأن الملف الليبي واضحة، لكن الباحث الليبي في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، يرى أن المواقف الليبية باتت رهينة لمواقف الدول المتدخلة في الملف الليبي، بعد أن باتت رهينة لدعمها العسكري والسياسي.
وعلاوة على اللجان المشتركة الروسية التركية، التي تسعى لبناء مقاربة بشأن أوضاعهما على تخوم سرت وفي الجفرة، تصاعدت وتيرة الخلافات التركية الفرنسية الدبلوماسية بسبب التعقيدات التي خلقتها علاقة الطرفين بالملف الليبي.
وعززت فرنسا وجودها العسكري قريبا من اليونان لدعمها، ما دفع تركيا إلى اتهامها بالتصعيد، ورد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على التهم التركية باتهام أنقرة بـ"المسؤولية الجنائية تجاه الصراع الليبي، بسبب خرقها الحظر المفروض على تسليح الأطراف الليبية"، فضلا عن اتهامها بإرسال مقاتلين مرتزقة سوريين لدعم جبهات قوات حكومة الوفاق.
وقبل مشاورات هاتفية بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والفرنسي ماكرون، أمس الجمعة، اتهم وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، باريس بأنها "تتصرف مثل الزعيم في البحر المتوسط"، بعد أنباء فرنسية عن رغبة باريس في نشر مقاتلات جوية من طراز "رافال" في جزيرة كريت، رفقة سفن حربية لتعزيز دعمها العسكري لليونان.
وتعليقا على توسع آثار الأزمة الليبية يرى البرق في حديثه لـ"العربي الجديد" أنها "نتيجة طبيعية لكثافة الأدوار الإقليمية والدولية في الملف الليبي، وشدة التجاذبات بين أصحاب هذه الأدوار، ما منع الملف من الوصول إلى حل سياسي وفق تفاهمات بينها، بل على العكس دعمت الكثير من الأطراف مشروعا عسكريا راهنت فيه على توقعات بعيدة عن الواقع".
ويقول البرق إن "انتقال تأثيرات الملف الليبي إلى البحر المتوسط، والصراع القائم على مواقع الطاقة نتيجة طبيعية لانهيار حفتر وتفكيك حلفه وأصبحت مواقف حلفائه السابقين متضاربة"، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي يجمع حلفاء حفتر على رفضهم استثمار تركيا لعلاقتها مع حكومة الوفاق للتوسع في المتوسط تفترق من جانب آخر حول رؤيتها للحل في ليبيا ما بين السياسي وما بين إعادة إحياء حفتر مجددا.
انتقال تأثيرات الملف الليبي إلى البحر المتوسط، والصراع القائم على مواقع الطاقة نتيجة طبيعية لانهيار حفتر وتفكيك حلفه
وأشار إلى محاولة أطراف حليفة لحفتر اتخاذ مسارات أخرى للحل، من بينها السعي الفرنسي لترميم العلاقة مع حكومة الوفاق، والتي يبدو أن زيارة برنار ليفي، المقرب من القيادة الفرنسية، مؤخرا، والتي أثارت جدلا واسعا في طرابلس جاءت في هذا السياق.
استنساخ التجربة التركية الروسية
ويرجح البرق تفوقاً للدور التركي في ليبيا، ويرى أن أسباب هذا التفوق تكمن في سببين؛ الأول العلاقة بين أنقرة وواشنطن في الملف الليبي، والثاني التقارب بين أنقرة وموسكو، التي باتت تمثل الثقل العسكري الأكبر لقوات حفتر في منطقة وسط ليبيا.
وأبرمت القاهرة وأثينا اتفاقا بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، كمحاولة لقطع الطريق أمام التقارب التركي مع حكومة الوفاق وتأثيرات الاتفاق البحري بينهما، لكن الأكاديمي الليبي خليفة الحداد يرى قرب انحسار عدة أدوار إقليمية ودولية في الملف الليبي، فموسكو وأنقرة نجحتا في بناء علاقة مشابهة للعلاقة بينهما في الملف السوري.
ويستند الحداد في رأيه هذا إلى مستجدات الميدان التي اختفت فيها الكثير من القوى التي كانت حاضرة في ساحة الصراع الليبي العسكري وباتت تركيا وروسيا أهم فاعلين في المستجدات الأخيرة، وتحديداً عند تخوم سرت والجفرة، حتى بات مفتاح حل الاشتباك العسكري الوشيك رهين التفاهمات التركية الروسية الجارية.
ويصف الحداد شكل العلاقة بين الطرفين في حديثه لـ"العربي الجديد" بأنها "معقدة، فهي علاقة تضاد وخصام عسكري، وفي ذات الوقت تبدو في شكل شراكة سياسية تمكنت هذه العلاقة المعقدة من تهميش كل الأدوار الإقليمية والدولية، ما حدا بواشنطن إلى سرعة الحضور والانخراط بشكل كثيف مؤخرا، وأبرزه اللقاءات المكثفة للسفير الأميركي بأطراف ليبية وعربية عدة لاقتراح إخلاء سرت والجفرة من السلاح".
العلاقة بين تركيا وروسيا علاقة تضاد وخصام عسكري، وفي ذات الوقت تبدو في شكل شراكة سياسية
وعلى الرغم من ذلك يرى الحداد أن توسع تأثيرات الملف الليبي لتطاول مصالح ومواقف عدة دول يعني تأخر الحديث عن حلول طاولة التفاوض وخلق عملية سياسية جديدة، ما يعني، بحسب رأيه، جموداً للأوضاع السياسية والعسكرية في ليبيا إلى حين توصل الأطراف إلى اتفاقات بشأن مصالحها في سياق تأثيرات الملف الليبي خارج البلاد.