هل أودى البشير بالحوار الوطني في السودان؟
لم تكن هذه هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يقلب فيها الرئيس السوداني، عمر البشير، الطاولة على حزبه ومعارضيه، ويعيد ترتيب قواعد اللعبة السياسية في البلاد على مزاجه وهواه. ففي مؤتمر حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) في ولاية الخرطوم، جلس الرئيس البشير على المنصة، بعد غياب حوالى شهرين بسبب إجراء عملية جراحية، ثم تحدث عن عملية المصالحة والوفاق الوطني، واضعا لها شروطا جديدة، وسقوفاً منخفضة لن ترضي أياً من الأطراف، ولا آلية الوساطة الأفريقية التي يرأسها رئيس جنوب أفريقيا السابق، ثابو أمبيكي.
قال البشير إن حدود التفاوض حول منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق مع الحركة الشعبية - قطاع الشمال ستنحصر في عمليتي تسريح القوات، ودمجها في القوات النظامية، وأن وفود الحكومة لن تجلس لأي جولة حوار وطني خارج السودان، كما أن التفاوض مع حركات دارفور لن يتم إلا في منبر الدوحة. ثم تحدث عن أن الحرية لا بد لها من سقف، وشدد على مواقف سابقة كثيرة لحزبه تجاه الصادق المهدي، وطالبه بالتبرؤ من إعلان باريس الذي وقعه مع الجبهة الثورية، وإلا سيتعرض للمحاكمة، كما أعلن عن إجراء الانتخابات في موعدها في أبريل/نيسان 2015.
حدث هذا على الرغم من تطورات إيجابية حدثت أخيراً، منذ توقيع الصادق المهدي إعلان باريس مع الجبهة الثورية في أغسطس/آب الماضي، والذي فتح الباب للتفاوض المباشر مع لجنة الحوار الوطني الحكومية في أديس أبابا، ثم جولات أمبيكي التفاوضية مع كل القوى السياسية داخل الخرطوم. وأخيراً، توقيع إعلان أديس أبابا بين لجنة الوساطة وحلفاء إعلان باريس، ومندوبي لجنة الحوار الوطني الحكومية، كل على حدة، خصوصاً بعد إعلان المؤتمر الوطني تأييده والتزامه باتفاق أديس أبابا.
وكان الوسيط الأفريقي، ثابو أمبيكي، قد قضى أسبوعا في الخرطوم في أغسطس/آب الماضي، أجرى فيه حوارات مع القوى السياسية السودانية في الحكومة والمعارضة، بشأن قضايا المصالحة والوفاق السياسي. واعتبر الأمر اختراقا تاق له أمبيكي كثيراً، حيث ينحصر تفويضه الأصلي من الاتحاد الإفريقي في علاقات السودان وجنوب السودان، ثم التفاوض بين حكومة السودان والحركة الشعبية-شمال حول أوضاع منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. ويعرف القريبون من مراكز التفاوض أن أمبيكي ظل يؤكد، في كل تقاريره للاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، على ارتباط قضايا السودان ببعضها، وأن من الصعب متاقشتها في منابر مختلفة، إلا أن الحكومة السودانية ظلت مصرة على رفض توحيد المنابر، ورفض مد تفويض أمبيكي، ليشمل مناقشة كل قضايا السودان جملة واحدة. ولكن، بعد تعثر عملية الحوار الوطني، وانفضاض معظم مراكز المعارضة عنها، بدا أن الحكومة السودانية استنجدت بثابو أمبيكي، لإنقاذ عملية الحوار، أو على الأقل وافقت على رغبته في توسيع مهمته.
وبمجرد الانتهاء من هذه المشاورات والاتفاقات في الخرطوم وأديس أبابا، انتقل أمبيكي إلى الدوحة، لنيل مباركة الحكومة القطرية راعية مفاوضات دارفور، ثم جاء إلى الخرطوم، ليلتقي الرئيس البشير، ويخرج معلناً تأييد البشير كل هذه الخطوات. وأخيراً، أعلن عن ترتيب لعقد جولتي تفاوض في أكتوبر/تشرين الأول الحالي مع الحركة الشعبية- قطاع الشمال وحكومة السودان، وأخرى بين حركات دارفور وحكومة السودان. وتقتصر الجولتان على ترتيبات وقف إطلاق النار، ثم أعلن عن جلسة مشاورات عامة لكل الأطراف، لتحديد أجندة الحوار وتفاصيله. وتبدو هذه الخطوات متسقة مع اتفاق أديس أبابا، والاتفاقات التي سبقته.
لكن، أعاد الرئيس البشير بخطابه الأخير والمواقف التي أعلنها، خلط الأوراق من جديد، وأربك حتى حلفاءه الداخليين المشاركين في الحوار الوطني، حتى خرج الناطق بلسان حركة "الإصلاح الآن" التي يرأسها الوزير السابق، غازي صلاح الدين، ليقول إن هذا الخطاب "وثبة للوراء"، فالموقف الجديد سحب تفويض ثابو أمبيكي لمناقشة كل قضايا السودان في مائدة واحدة، وأجهض مقدماً الجولتين المقبلتين للترتيبات الأمنية ووقف العدائيات، وأعاد تعريف عملية الحوار الوطني، ليجعله مجرد عملية مصالحة، وإلحاقاً لبعض الأطراف بالحكومة القائمة.
وقد ظلت التساؤلات التي عمت الشارع السوداني والأوساط السياسية تدور حول محاولة تحليل موقف الرئيس البشير، وعمّا إذا كان هذا هو موقفه الشخصي، أم أنه موقف تمت مناقشته في أروقة الحزب الحاكم، وتولى الرئيس البشير إعلانه. ويربط بعضهم هذا الموقف المتناقض مع التزاماتٍ، أعلنها حزب المؤتمر الوطني، باحتمال أن يكون البشير كان مغيباً في فترة مرضه عن تطورات الأوضاع السياسية، وأنه بعد أن استعاد عافيته، لم يبد موافقته على ما تم في غيابه.
ولا تستبعد تحليلاتٌ وجود خلافات وصراعات بين تيارين في الحزب والحكومة، بين تيارٍ يستشعر الخطر على مصير الحزب والحكومة، ويريد المضي في عملية الحوار، باعتبارها تمثل عملية إنقاذ له، وتيار آخر يريد بقاء الأمور كما هي، ويراهن على قدرته على السيطرة على الأوضاع تحت كل الطروف. ويستشهد هؤلاء بما يعرف بـ"تسريبات إيريك ريفز"، وهو صحافي أميركي متخصص في الشؤون السودانية، نشر محضر اجتماعات اللجنة الأمنية العسكرية العليا، برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية، الفريق بكري حسن صالح، ومشاركة معظم القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية في البلاد، وبدا فيها واضحاً سيطرة الجانب المتشدد، والذي يريد استخدام مسألة الحوار الوطني ورقة للمراوغة، ليس إلا.
هل انتهى الأمر هنا؟ بالتأكيد لا، فما زال موقف لجنة الوساطة وفرقاء كثيرين ليس واضحاً، ومن المؤكد أن اتصالات سرية تجري، لبيان ما إذا كانت مواقف الرئيس البشير تمثل السياسة الرسمية الجديدة، للتعامل مع هذه القضايا، أم أنها كانت مجرد انفعال مؤقت، تحت تأثير ضغوط معينة. فالسياسة السودانية أثبتت، من قبل، أن من الممكن إعلان مواقف معينة، ثم اتخاذ خطوات معاكسة لها على المستوى العملي. وسيتحدد شكل الموقف الجديد إذا قدمت لجنة الوساطة الدعوات لاجتماعي أديس أبابا بعد عطلة عيد الأضحى، وستتضح المواقف الجديدة لكل الأطراف في شكل استجابتها لهذه الدعوة.