هل أنصفت الحربُ شهداء الإعداد؟

06 اغسطس 2015
كانت صنعة الأنفاق إذاك جديدة، لم تعركها الأيام (Getty)
+ الخط -
يقولُ أصدقاؤه إن وجهه كان يُتوهّج بالسعادة ذلك اليوم، الدنيا لا تتّسعُ لفرحته، هو أوّل أيامه في النفق! حيث الطريق المباشرة والواضحة –رغم ظلمتها- إلى فلسطين! نزل "أحمدُ" بهمّة ونشاط، مشتعلًا بحرارة البداية، وصدق العزم، يحفرُ ويجمعُ ويملأ وينادي زميله في الأعلى: اسحب!


كانت صنعة الأنفاق إذّاك جديدة، لم تعركها الأيام، ولم تشذّبها الحوادث المؤلمة، وفي ضوء النفق الأصفر الخافت، كانت حُبييبات الرمل تلمعُ مرسلةً تحذيرات لم يكن الشباب قد أتقنوا فهمها بعد!

قال لزميله: هذا آخر دلو لهذه الليلة، هيا .. اسحب! سحب الزّميلُ في الأعلى، لكنّ الدلو لم يرتفع! بل هوى الرملُ على الدلو و"أحمد" في الأسفل، وأطبقت "عينُ النفق" جفنيها حتى كأنه لم يكن!

أسقط في يد المساكين بالأعلى، يحفرون بأدواتهم البسيطة بلا جدوى، ويتّصلون ويستغيثون، لكن أحمد لم يخرج من هناك إلا جثة هامدة!

أذكرُ جيدًا الضجّة التي أعقبت استشهاد ذلك الشابّ، كان من عائلةٍ عاديةٍ جدًا، أكثرُها غيرُ متحمّسٍ للنشاط المقاوم، كانت صدمةُ العائلة اثنتين: أولًا بموتِ ابنها فجأة بلا حربٍ ولا قتال! وثانيها التشويه والكذبُ الذي لاحق الشهيد ذي التسعة عشر ربيعًا بعد وفاته الأليمة!

فمن قائل: "قُتل في حدثٍ داخليّ"، ومن قائلٍ: "بل صفّته جماعته"، ولم تنته الأقوالُ حتى نُشر له تسجيلٌ وهو يحفرُ في النفق يوم استشهاده!

كانت ردّة فعل العائلة العاديّة أنْ لم تعُد كذلك، تحوّلت بالكامل إلى عائلةٍ مقاومة، الوالدُ ذو الشيبة حمل سلاح ولده، وإخوة الشهيد جميعًا انتظموا في كتائب القسام!

"عبدُ الله" كان له قصةٌ أخرى، كان عليه أن يزرع عبوة "مسطرة" ذلك اليوم، هذا النوع من العبوات يعتمدُ على الوزن الثقيل من أجل اتصال جزءين معدنيين مفصولين بطبقة عازلة، ولا ينفجرُ عادةً بمرور عربة أو سيارة فوقه، بل لابدّ من دبابةٍ أو جرّافة.

سوّى "عبدُ الله" وضعيّة عبوته على أكمل وجه، غير أنه لاحظ أن الرمال فوقها مرتفعةٌ قليلًا، وقد تتسبب في كشف مكانها، فقام وقفز فوقها، قفز وقفز، ولم يكن ينبغي لها أن تنفجر بوزنه الضئيل! لكنّها فعلت، وطار عبُد الله من فوقها أشلاء متناثرة! ثم تناثرت حوله الإشاعاتُ بدوره حتى أقضّت مضاجع أهله المكلومين!

في فلسطين يقولون: "الموت مع الجماعة رحمة!"، ولعلّ الشعوب العربية المنكوبة اليوم تُدرك اليوم معنى الرحمة في الموت مع الجماعة! وبقدر ما تكونُ الحربُ الشاملة صعبةً ومرّة، يكونُ الموتُ سهلًا فيها، سهل الحدوث، وسهل الاستيعاب على السواء!

وأكثرُ ما يؤلم أهالي شهداء "الإعداد"، هؤلاء الذين تبتلعهم الأنفاق على حين غرّة، أو الذين تغدرُ بهم القنابل والعبواتُ، هو سؤال: كيف مات؟ آهٍ لو أنه مات في الحرب، لكانت كفتنا عناء الإجابة! هكذا يتمتمُ الواحدُ منهم بين دموعه! هذا الموتُ الهادئ هو في حقيقته موتان لا واحد!

ويزيدُهم ألمًا تلك اللجانُ الصفراءُ التي كانت تتربّص بالواحد منهم حتى إذا سمعت بخبر استشهاده، سابقت الجميع إلى صياغة قصّة هوليوديّة حوله، ولعلّ الناظر البسيط إذا طالعها لم يصدّق أن كلّ ما فيها كذب، لجودة الحبكة، وكثرة التفاصيل بالأسماء والأماكن، إذ لا يخيّل إليه أنّ كلّ هذا كذبٌ محض، إذ "لا نار بغير دُخان" كما يقولون!

وفوق ذلك؛ فإنّ دوائر رعاية أهالي الشهداء التابعة للسلطة لا تعترفُ بهؤلاء الشهداء، ولا تصرفُ لصغارهم كفالات، ولا تدعوهم إلى الاجتماعات والأنشطة الخاصة بذوي الشهداء، فيكونُ عملُها ضِغثًا على إبّالة كما قال المثلُ العربيّ!

قديمًا كانت المقاومة تقول عن الواحد من شهداء الإعداد: "استشهد في مهمّةٍ جهاديّة"، ولا تذكر تفصيلًا واحدًا عن كيفية ذلك، رغم أنّ العدوّ قد يعرفُ في النهاية كيف مات فلان، إمعانًا في الكتمان، وتعوّدًا على عدم إعطاء المعلومات المجانية، غير أنّ كثرة الإشاعات التي لاحقت شهداء الإعداد جعلت المقاومة تتنازل قليلًا؛ فتعلن: استشهد خلال التدريب، أو التصنيع، أو حفر نفق، وهكذا.

لكنّ ذلك لم يقطع ألسنة المشوّهين والمغرضين، إنّما كان غرسُ هؤلاء حين أينع وأثمر هو أبلغ ردّ، فجاءت حربُ 2014 بالخبر اليقين، لم يكن غيرُ نارها المتوقّدة لتجلّي المعدن الذهبيّ لهؤلاء الأبطال، وتنصف "شهداء الإعداد" أمام المحبّين والمبغضين أجمعين، وصار الواحدُ منهم إذا استشهد هتفت باسمه الجموع المؤمنة بالمقاومة وطريقها، وخسئت الألسنة التي طالما تطاولت على أسلافه ممن سبقوا وقضوا على ذات الطريق!

(فلسطين)
المساهمون