هل أسأنا فهم الذباب؟

14 اغسطس 2018
+ الخط -
في البدء كان هناك الذباب أيضاً، ولذلك لم يكن المسرحي الروماني القديم بلايتوس مبالغاً حين اعتبره "أحد الشهود الدائمين منذ الأزل على الكوميديا البشرية"، ولم يخطئ المؤرخ اليوناني بلوتارك حين كتب أنه من بين جميع المخلوقات التي تشارك الإنسان سكنه، "فإن الذبابة والسنونو فقط الذين لا يمكن استئناسهما أو ترويضهما"، وفي حين تم تدريب السنونو بعد ذلك بكثير على إرسال الرسائل، بقيت الذبابة عصية على إرادة الإنسان، أو كما وصفها إيمرسون بأنها مثل الضبع، غير قابلة للتدجين من البشر.

في العالم القديم كانت الذبابة محط إعجاب لشجاعتها في مهاجمة خصوم أكبر منها بكثير، فكانت مكافأة الجنود المصريين الذين يظهرون صفات الثبات والصمود منحهم ذبابات ضخمة مصنوعة من الذهب والفضة. كانت الذبابة أيضاً محط إعجاب في اليونان القديمة، حيث كتب هوميروس معبراً عن إعجابه بها، كما كتب لوسيان السميساطي مقالة يمتدح فيها الذبابة منبهراً بقدرتها على العثور على مكان يسمح لها بالوجود في أعمال الشعراء العمالقة، وامتدح أجنحتها الجميلة التي تشبه الأقمشة الهندية إذا قورنت بأجنحة الجنادب والنحل، واعتبر أن تمتع الذباب بنشاط نهاري فقط يعني انتفاء أي شكوك حولها بالخيانة أو الخداع، "إنها لا تفعل شيئاً في الظلام وليس لديها رغبة بالأفعال الخفية، ولا أفكار تجول في خاطرها عن أعمال مشينة كانت ستسيء إلى سمعتها لو أنها قامت بها في ضوء النهار". في حين لاحظ أرسطو صعوبة إبعاد ذبابتين تتزاوجان لأن ممارستهما الجنسية تدوم لفترة طويلة، مما أكد السمعة المتداولة عن الذبابة بوصفها "تحب المتعة أكثر من أي مخلوق آخر، وتحصل على متعتها بتهور وبلا توقف ودون تحفظ وبلا خجل"، كما كتب لوسيان السميساطي في الموضوع نفسه ملاحظاً ـ ولا داعي لأن تسأل كيف لاحظ ـ أن ذكر الذبابة لا يدخل ويخرج في لحظة مثل الديك، ولكنه يغطي أنثاه لفترة طويلة.

طبقاً لما يرويه ستيفن كونر في كتابه الممتع (الذبابة التاريخ الطبيعي والثقافي)، فإن ما كتبه هوميروس ولوسيان، لفت فيما بعد انتباه الكاتب ليون باتيستا ألبيرتي في القرن الخامس عشر، والذي كان يعد خليفة العالم والفنان والأديب ليوناردو دافينشي في ملاعب العلم، فقام ألبيرتي بتضخيم مديح هوميروس للصفات التي تتمتع بها الذبابة، معتبراً أن الذبابة أكثر استحقاقاً للثناء من النحلة، لأنها ليس لها أماكن استقرار محددة وتنفذ حملاتها دون خوف ورحمة، وهي تفضل أن تقضي حياتها في معركة مستمرة، لذلك تمضي حياتها في الضوء وفي صحبة الإنسان، قانعة بنفسها ـ تسافر في بعض الأحيان حتى 24 كيلومتر بقواها الخاصة ـ لا تحسد أحداً وتتحمل جميع تغيرات الحظ برباطة جأش، فلم يشاهدها أحد أبداً وهي تضحك أو تبكي أو تقطب حاجبيها في وجه الصعاب، وطريقتها في تناول الطعام تتم في العلن وفي وجود الصحبة، وبرغم ما قاله الكثيرون عن قواها الحربية الضارة، لدرجة أن التلمود اعتبر الذبابة المصرية السامة خطرة جداً وسمح بقتلها يوم السبت على عكس المخلوقات الأخرى، يرى ألبيرتي أن الذبابة حشرة محبة للسلام على عكس الحشرات الأخرى التي تُوصف بالاجتماعية مثل النحل والنمل، بينما تبدأ تلك الحشرات حروباً أهلية مدمرة فيما بينها على عكس الذباب، مضيفاً أمنية يعلم أنها لن تتحقق: "كم ستكون حياة البشر متزنة لو أنهم تصرفوا مثل الذباب".

من بين مادحي الذباب في العصر الحديث يتوقف ستيفن كونر عند جون روسكين وكتابه (ملكة الهواء)، والذي اعتبر فيه أن العلم الحديث أثبت أحقية الذبابة بمديح هوميروس، لأن طيرانها وتنفسها يتمّان في تناسق، وأن أجنحتها عبارة عن مضخات دفع، لذلك هي تتنفس وتطير في وقت واحد بفعل حركة نَفَس العضلات، وبذلك تتنفس بحيوية أكبر خلال طيرانها، وهي حقيقة جعلته يعتبر الذباب تجسيداً لمبدأ الحرية، لأنه لا يعرف اللباقة، ولا يهتم إذا كان الشخص الذي يقوم بإزعاجه ملكاً أو بهلواناً، وهناك تعبير واحد متطابق في كل خطوة من مشيته الميكانيكية الرشيقة، وفي كل وقفة من مراقبته الوطيدة، ألا وهو الغرور الكامل والاستقلال الكامل والثقة بالنفس، والإيمان بأن العالم قد خُلق من أجل الذباب، ولذلك "لا يمكنك إخافته أو التحكم فيه ولا إغراءه أو إقناعه، فليس لديه عمل ليقوم به، ولاغريزة مستبدة ليطيعها، هو حر في الهواء، حر في الغرفة، تجسيد أسود للهوائية والتجوال والاستقصاء".

يناقش المؤلف في أحد مواضع كتابه تعبير (الموت كذبابة) الشائع بين الناس، معتبراً أنه يعكس بوضوح إحساسنا المعارض كبشر للاندماج مع الذبابة، التي يقودنا التأمل في مصيرها إلى حقيقة علاقتنا بالموت، فالذباب الذي نتخلص منه بلا مبالاة وسهولة، سيظل جنسه موجوداً عندما نرحل نحن، أو على الأقل عندما نصبح في حالة لا يمكننا فيها إبعاده عن هدفه الذي قد يكون نحن في تلك اللحظة، لذلك فعدم قدرة الذبابة على رؤية أي فرق أساسي بين الحياة والموت يدعو الإنسان إلى الغيظ، ومن يدري ربما بدا الأمر بالنسبة للذبابة كما لو أن هناك الكثير من الموت الذي يحيط بنا، وربما كنا بالنسبة للذبابة الجائعة مجرد جيفة غير ناضجة. ثم ينبهنا إلى أنه برغم اختراع البشر لوسائل عديدة لإبادة الذباب بشكل جماعي، بسبب ارتباطه بنقل الأمراض، لكن الحقيقة أن الذباب بدون قتله يحيا ذروة حياته لوقت فصير، وبرغم أن أعداد الذباب قد تبدو وكأنها لا تحصى، إلا أن أيام الذبابة الواحدة معدودة، وهي أقل من المئة يوم بالنسبة لأغلبية الأنواع.

ومع ذلك فقد ظن الناس قديماً أن الذبابة تمتلك علاقات سحرية خارقة وشيطانية، وكان ينسب إليها أنها تتمتع بقوى إحياء الموتى، يقول إليان في كتابه عن عادات الحيوانات والذي يعود إلى القرن الثاني الميلادي، إنه على الرغم من أن الذباب يغرق كثيراً وبسهولة فإنه من الممكن إنعاشه من خلال ذره بالرماد وتدفئته في الشمس، وهو ما يقوله أيضاً لوسيان في مديحه للذبابة التي يرى أن روحها خالدة، في حين تظهر قدرات الذبابة على العودة إلى الحياة في أساطير عدد من الشعوب، حتى أن بعض أهالي مناطق في أفريقيا الجنوبية كانوا يعبدون آلهة طيبة هيئتها تشبه الذبابة، وحين تقع أبصارهم عليها يقدمون لها أسمى آيات التبجيل، ويعتبرون وصولها إلى أكواخهم يعني الرحمة والرفاهية لجميع قاطنيها وأن ذنوبهم تم غفرانها.

تلك القدرات الخارقة المنسوبة إلى الذباب جعلت بعض سكان الشرق الأوسط ينظرون إليه قديماً كحامل لخواص علاجية، فكان يُشوى ويطحن ليصبح مسحوقاً يتم استخدامه على الجلد لتجنب لسعات الحشرات ونصح بيليني بوضع رؤوس ذباب حديثة العهد أو معجون مصنوع من رماد الذبابة وحليب المرأة المرضعة والملفوف لتغطية الصلع، وكان الذباب المخلوط مع روث الدجاج أو دم الخفاش فعالاً لعلاج البهاق، ولم يتغير هذا إلا عندما توسع استيعاب طبيعة البكتيريا وثبت في القرن التاسع عشر نقل الذبابة للعديد من الأمراض، لتصبح منذ تلك اللحظة العدو الحشري الأعظم للبشرية، ومع ذلك ظل ذباب الفاكهة مهماً لدى علماء الأحياء التجريبيين وعلماء الوراثة، ولدى الباحثين المهتمين بالإدمان أيضاً، بعد أن ثبت أن الذباب والبشر يظهرون استجابات متشابهة جداً نحو الكحول.

ربك والحق، أمتعتني قراءة هذا الكتاب بكل ما حواه من مديح عقلاني للذباب، ومحاولة لإعادة تأمل تاريخه والتفكير في معنى وجوده، لكنني لن أكون صادقاً معك لو لم أعترف أنني استمتعت أكثر بقتل ذبابة مستفزة سريعة الحركة، بضربة ماهرة من نفس الكتاب الذي يحتوي على كل هذه المدائح للذباب، ولله في طبائع خلقه شئون.

***

ـ الذبابة التاريخ الطبيعي والثقافي ـ ستيفن كونر ـ ترجمة إيزميرالدا حمدان ـ مشروع كلمة.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.