يكثر المتقاعدون في الجزائر، وتقلّ الفضاءات والمبادرات الخاصة بهم التي تطاول أوقات فراغهم وعطلهم وخبراتهم. وقد أصبحوا يُعرفون بأنّهم "الموتى القاعدون".
بلغ عدد المتقاعدين في الجزائر 2.6 مليون متقاعد لغاية يونيو/حزيران 2015، من قطاعات مختلفة في الداخل، ولا سيما الجيش والتعليم والصحة، وكذلك من الخارج، وخصوصاً من فرنسا حيث للعمالة الجزائرية تاريخ طويل. ويفرض هذا الواقع جملة من الأسئلة، منها: هل وضعت الحكومة ومنظمات المجتمع المدني آليات خارج التكفل المادي خاصة بشريحة المتقاعدين؟
في اليوم نفسه الذي تقاعد فيه، بعد ثلاثين عاماً في سلك التعليم، كتب المترجم محمد بوطغان على صفحته على موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي: "ترى ماذا سأفعل بعد الآن؟". سؤال يعبّر عن حيرة المتقاعد الجزائري الجديد، الذي يجد نفسه في مواجهة فراغ كبير بعدما كان وقته مشغولاً بالانتساب إلى وظيفة معيّنة، بغضّ النظر عن مدى جدية العامل الجزائري في التزاماته المهنية، إذ تشير بعض الدراسات إلى أنّه يعمل فعلياً ساعتَين فقط من أصل ثماني ساعات.
يبرر بوطغان تساؤله ذاك لـ"العربي الجديد"، بخوفه من الوقوع في "مخالب وحش الفراغ"، في ظلّ خلو الفضاء الجزائري من سياسة حكومية ومدنية تهدف إلى فتح آفاق جديدة في وجه المحالين إلى التقاعد. يقول: "قانون التقاعد يحدد السنّ القانونية بستين عاماً، ما عدا شريحة أبناء شهداء ثورة التحرير ومجاهديها التي تستفيد من تخفيض سبع سنوات إلى خمس، وهي سنّ دقيقة من الناحية النفسية، بل تكاد تكون شبيهة بسنّ الطفولة، مع العلم أنّ نقابات المتقاعدين لا تركّز إلا على الجانب المادي والمطالبة بزيادة المعاشات".
باستثناء متقاعدي الجيش والقطاعات الأمنية المختلفة وبعض الشركات الاقتصادية الحكومية الكبرى، مثل شركة البترول والغاز، لا يجد متقاعدو القطاعات الأخرى أيّ نواد أو فضاءات تتكفّل بأوقات فراغهم أو بعطلهم أو بمواهبهم وهواياتهم، الأمر الذي يذكّرنا بالعبارة الجزائرية المشهورة "موتى قاعدون".
العم حسين متقاعد من شركة السكك الحديدية. بالنسبة إليه، "يمكننا القول إنّ التقاعد في الجزائر يعني الموت المعنوي الذي يسبق الموت الجسدي. هو ما يمكن أن نسمّيه البث التجريبي للموت". ويشرح: "بات المتقاعد يذهب إلى الحج أو العمرة، ثم يعود ليصنّف ضمن شريحة المسنّين، ويلعب دور التحفة القديمة المعروضة في البيت. يمكن أن يأخذوا معها صورة، لكن لا أحد يكلمها أو يهتم بها". يضيف العم حسين: "يحلّ لقب الشيخ أو الحاج مكان لقب الطبيب أو المهندس أو المعلم أو السائق، وبالتراكم تُنسى الخبرات العلمية والمهنية للمتقاعد، وتصبح يومياته ملخصة في العبارة الشهيرة من البيت إلى الجامع. كأنّه انتقام مبرمج من ماضيه المهني والإنساني". ويسأل: "لماذا لا نستفيد من خبرات هؤلاء؟ أنا مثلاً، قضيت خمسة وثلاثين عاماً في قطاع السكك الحديدية، ولم يحدث أن استشارتني المؤسسة في أمر بعد تقاعدي".
في السياق، يقول الكاتب عبد الحميد إيزة إنّ ثمّة خبرات ينبغي ألا تحال إلى التقاعد إلا إجرائياً، "إذ إنّنا عملياً محتاجون إلى خبراتها ورصيدها في التعاطي مع الواقع". ويسأل على سبيل المثال: "هل من المنطق أن يُنسى شخص يملك خبرة أربعين عاماً في المحاسبة المالية؟ قبل سنوات عمدت الحكومة إلى تشغيل هؤلاء كمستشارين، حتى ينقلوا خبرتهم إلى الجيل الجديد. لكن سرعان ما تخلت عن الإجراء".
ثمّة متقاعدون يستغلون تقاعدهم في مباشرة إحدى التجارات، مثلما فعل مفتاح ش. وهو مهندس مدني. يقول: "لم أستوعب يومياتي بعد تقاعدي، وقد نشبت مشاكل أسرية بسبب ذلك. يتعوّدون عليك خارج البيت نهاراً، فلا يتحملون وجودك فيه طيلة الشهر والعام. لذا، طلبت رخصة سيارة أجرة للوقاية من شرور الفراغ". يضيف: "كثيرون هم الزبائن الذين يتعاملون معي على أنّني سائق محدود الأفق العلمي، لكنّهم يبدون دهشتهم حين يكتشفون أنني مهندس في الأساس".
إلى ذلك، يعمد متقاعدون آخرون إلى الالتحاق بالقطاع الخاص في مجال تخصصهم. عبد الرحمن كان مدير مدرسة حكومية، عرض خدماته على مدرسة خاصة بعد تقاعده. يقول: "لا أفهم كيف يتولى الرئاسة والحكومة والوزارة أشخاص بلغوا الثمانين، على الرغم من أنّ تلك المناصب تقتضي قوة فكرية وجسدية، ويُستكثر على أشخاص في الستين وما فوقها بقليل، أن يشتغلوا سنوات أخرى في مجالات يحسنونها". ويشير إلى تعسفات ترتكب في حق هؤلاء من قبل القطاع الخاص، "هم يدركون أنّنا متقاعدون وفي حاجة إلى عمل، إما هروباً من الفراغ وإما طلباً لمدخول إضافي، إذ إنّ أجرة المتقاعد الجزائري هزيلة جداً. لكنّهم لا يقبلون تشغيلنا إلا بنصف الراتب وربما أقلّ. نحن نهرب من غول الفراغ، فنقع ضحايا لابتزاز القطاع الخاص".
من جهته، يعبّر بلقاسم و. (79 عاماً) عن الأزمة النفسية التي يتخبط فيها المتقاعدون في بيئة تبلغ نسبة الشباب فيها 75 في المائة، فيقول: "استحوذ الجيل الجديد على كلّ المساحات، البيت والمقهى والحديقة والأعراس، ولم يبقِ لنا إلا المساجد والمقابر. أين وكيف يقضي المسنّ المتقاعد وقته؟".