ظلت سويسرا، على مدى عقود، تدافع باستماتة عن "السر المقدس" أو مبدأ السرية المصرفية الذي يقوم عليه نظامها المصرفي القوي برمته. ولمزيد من التحصين، عملت في العام 1934 على إقرار "قدسية السرية المصرفية" في القانون الفدرالي للمصارف وصناديق الادخار.
كما نصت في قانونها الجنائي، وتحديدا في فصله 273، على أن انتهاك السرية المصرية "جريمة ضد الدولة والأمن القومي" وتوعدت المخالفين بعقوبات رادعة. عقوبات يعرفها جيدا الفرنسي الإيطالي إيرفي فالسياني، بطل فضيحة التسريبات الأخيرة لمصرف "HSBC"، الذي نقل ملفات عن عملاء فرع المصرف البريطاني في سويسرا إلى السلطات الفرنسية. بالنسبة للقانون السويسري، فالسياني متهم بسرقة بيانات من الفرع السويسري للمصرف البريطاني وليس الكشف عن فضائح أو حتى اختلالات.
غير أن استماتة سويسرا في الدفاع عن هذا "السر المقدس"، الذي حولها إلى مغناطيس جاذب للأموال من مختلف أنحاء العالم، بدأت تفتر خلال السنوات الأخيرة بسبب عدة عوامل.
2008: ضغوط أميركية
تنامى الاهتمام الأميركي بالنظام المصرفي السويسري و"سره المقدس" خلال ثمانينيات القرن الماضي عندما تفجرت قضية كان بطلها أميركيين أبرموا صفقات أسلحة مع إيران بوساطة مصارف سويسرية. لكن كان يتعين انتظار 20 سنة كاملة قبل أن توجه واشنطن أولى ضرباتها للسرية المصرفية السويسرية بإطلاقها حملة شاملة ضد التهرب الضريبي بلغت أوجها في العام 2008 بفعل الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وذلك عن طريق ما
يعرف بقانون "فاتكا" الذي خول للإدارة الأميركية مطالبة جميع الدول ببيانات عن دخول مواطنيها وحساباتهم المصرفية.
كان مصرف يو بي إس أول ضحية للجهود الأميركية بعد أن وجهت إليه اتهامات بمساعدة 17 ألف ثري أميركي على تحويل 20 مليار دولار إلى خزائنه بين عامي 2002 و2007 للتهرب من الضرائب. وفي العام 2009، دفع المصرف السويسري 780 مليون دولار لتفادي المحاكمة، معلنا عن هوية 250 عميلا قبل أن يكشف بعيد عام عن بيانات تخص 4450 عميلا.
وفي مايو/أيار الماضي، دفع كريدي سويس غرامة ضخمة ناهزت 2.6 مليار دولار لتسوية قضية تهرب ضريبي.
2009: التهرب الضريبي جريمة
انضمت مجموعة العشرين ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى قائمة المنزعجين من السرية المصرفية السويسرية. وضغط الطرفان على السلطات السويسرية لإقرار تعديلات على القانون الفيدرالي للمصارف وصناديق الادخار. وفي مارس/آذار 2009، قبلت بيرن رسميا التنصيص على أن التهرب الضريبي جريمة يعاقب عليها قانونيا. وكان هذا التعديل مسماراً آخر في نعش النظام المصرفي السويسري.
2009: ضغوط مجموعة "العشرين"
طالب قادة الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، في القمة التي احتضنتها العاصمة البريطانية لندن، بنشر قائمة "الجنان الضريبية" غير المتعاونة في مجال محاربة التهرب الضريبي ومختلف الجرائم المالية، مثل تهريب الأموال، مؤكدين أن عهد السرية المصرفية قد ولى. تصدرت سويسرا القائمة. غير أن بيرن استطاعت أن تحذف اسمها من هذه القائمة بعد 5 أشهر فقط بعد أن وقعت 12 اتفاقية دولية بشأن التبادل التلقائي للمعطيات المصرفية. غير أن سويسرا أحجمت عن تطبيق هذه الاتفاقية على مستويي الدول غير الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وأيضا مواطنيها بدعوى أن قوانينها لا تسمح بذلك.
2009: حل وسط فاشل
اقترحت المصارف السويسرية فرض ضريبة على الأموال غير المصرح بها على أن تتولى بنفسها استخلاص هذه الضريبة حفاظا على السرية المصرفية. تم اختبار هذا الحل، الذي أطلق عليه اسم "روبيك"، في دولتين أوروبيتين فقط هما بريطانيا والنمسا. لكن الحصيلة كانت مخيبة للآمال. إيرادات هذه الضريبة في لندن مثلا
كانت أقل من المتوقع بنحو 8 مرات.
2012: سرقة بيانات عملاء ألمان
واجهت المصارف السويسرية في العام 2012 موقفا حرجا بعد اكتشاف سرقة بيانات عملاء ألمان. وقد اتهم العملاء المصارف ببيع هذه البيانات لمصلحة الضرائب الألمانية. وتحدثت تقارير إعلامية عن تورط مصرفيين في بيع بيانات عملاء لمحققين ألمان مقابل مبالغ مالية، وهو ما أثار جدلا كبيرا في أوروبا ودق مسمارا آخر في نعش السرية المصرفية في سويسرا.
2013: المصارف تتخلص من العملاء المزعجين
طيلة سنوات، عملت المصارف السويسرية على جذب عملاء فرنسيين وفتحت لهم حسابات في سرية تامة. غير أن إعلان فرنسا إجراءات صارمة ضد التهرب الضريبي وإطلاقها حملة ضد رعاياها المتهربين من سداد الضرائب على غرار "فاتكا" الأميركية دفع المصارف السويسرية إلى لفظ عدد كبير من عملائها الفرنسيين الذين لا يتوفرون على حسابات ذات أهمية.
وفي المقابل، عملت المصارف السويسرية على "تطهير" باقي عملائها الفرنسيين، خاصة ذوي الأرصدة الضخمة، من شوائب التهرب الضريبي.
2013: التبادل التلقائي للمعطيات المصرفية
تعتبر اتفاقية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الخاصة المتعلقة بمحاربة التهرب الضريبي آخر المسامير التي دقتها الضغوط الدولية في نعش السرية المصرية السويسرية. وتواصل المنظمة تحضير الضربة القاضية للنظام المصرفي السويسري، وتتمثل في اتفاقية التبادل التلقائي للبيانات المصرفية التي يتوقع أن تدخل حيز التطبيق بحلول العام 2018.