هفوة غسان كنفاني

04 سبتمبر 2015
+ الخط -
كلما مات شخص، أو مجموعة من المواطنين العرب المظلومين، تذكّرنا قولة غسان كنفاني في روايته الأشهر "رجال في الشمس": لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ في الأيام الأخيرة، لجأ كتاب مواقع الاتصال الاجتماعي وفي الصحف إلى الرواية، يستعيرون الحكاية نفسها، بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدورها، بسبب حادثة شاحنة الموت على الحدود النمسوية التي حملت حوالي 71 جثة لمهاجرين، غالبيتهم سوريون، وكلنا صرخنا بصوت واحد: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ 
كانوا يهربون من الموت في سورية، في أكثر تراجيديات عصرنا مدعاة للألم، فلم يشهد العالم، بعد الحرب الأهلية الإسبانية، قتلاً يقوم به نظامٌ، بكامل مؤسساته ورجالاته، لشعبه، كما فعل النظام السوري. أما الحرب الأهلية اللبنانية فقد كانت صراعاً بين قوى اجتماعية مختلفة، تقتل بعضها بعضاً بعشوائية فظة.
في "رجال في الشمس"، يروي غسان كنفاني جزءاً من مأساة الشعب الفلسطيني والتيه العظيم الذي أصابه بعد النكبة، من خلال رحلة فلسطينيين يبحثون عن لقمة العيش في الكويت، بعد طفرة اكتشاف النفط، بعدما أُغلقت أبواب العيش أمامهم، لكن إجراءات الدخول إلى الكويت وموانع تجاوز الحدود تضطرهم إلى اللجوء إلى عملية تشبه ما حصل أمام المهاجرين السوريين، ضحايا الهجرة إلى أوروبا الذين ماتوا قبل أيام، في التخفي في شاحنة، لتجاوز الحدود الهنغارية النمسوية. ويقال إن المهربين، أو سماسرة اللجوء وسائق شاحنة الموت، فرّوا بفعلتهم، ولا نعرف إذا كانوا قد اكترثوا اصلاً لبقاء هؤلاء المهاجرين في الشاحنة، يصارعون الموت، بحثاً عن هواء يتنفسونه، ولا نعتقد أنهم يعرفون حكاية غسان كنفاني، ليسألوا: لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟
كلنا صرخنا مع أبي الخيزران، سائق شاحنة الموت عند غسّان في الستينيات، وصرخنا اليوم : لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟ قد يذهب نقاد الأدب مذاهب شتى في تناول الرواية، وقد يضيفون إلى الحكاية أبعاداً رمزية، واستعارات لتدعم تأويلات سياسية مناسبة لأفكارهم، ولما أراده غسان كنفاني من رؤى فكرية، فيما وراء واقعية حكايته. ويجمع معظم النقاد على أن أبا الخيزران هو القيادة السياسية التي قادت الشعب الفلسطيني، وربما الشعوب العربية، منذ نكبة 1948 إلى تلك المرحلة قبل ظهور المقاومة الفلسطينية بعيد صدور الرواية بسنوات قليلة. منذ قرأت الرواية في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وأنا أتساءل: لماذا لجأ غسان كنفاني إلى إظهار أبي الخيزران عاجزاً جنسياً وفاقداً ذكورته، أو فحولته، دلالة على عجزه عن القيادة رمزياً؟ هل على العجز عن القيادة أن يرتبط دائماً بالعجز الجنسي وفقدان القدرة على ممارسته؟ استطاع غسّان أن يقدم مأساة الفلسطينيين، شعباً وأفراداً، في روايته، بما يليق بالمأساة من وصفٍ، يصدّع الروح ويفسح للرواية مكاناً آمناً، ضد الفناء في ذاكرة الأجيال، على مدى أكثر من خمسة عقود. لكن شخصية أبي الخيزران، على الرغم من قوة حضورها الروائي، بقيت إلى اليوم أسيرة مفهوم الذكورة الذي لا ينسجم مع الفكر التقدمي الذي حمله الكاتب، فليست الفحولة الطاغية رمزاً لمعرفة شؤون قيادة الشعوب نحو الدرب الصحيح أو النصر، وليس العجز الجنسي وفقدان الذكورة رمزاً للتخبط والفوضى وقيادة الشعوب الى الهاوية والهزيمة. ولو افترضنا، رمزياً، أن أبا الخيزران كان سليم الجسد، فحلاً ومهووساً بالجنس، مثل معمر القذافي على ما يحكى عنه، فهل كان سيقود هؤلاء الفلسطينيين التعساء في شاحنته إلى برّ الأمان في الكويت والنصر الساطع في الدلالة الرمزية؟
معروف عن معظم الزعماء العرب هوسهم بالجنس، وقيامهم بتعهير كثيرات من نساء شعوبهم بقوة السلطة والخوف. وعلى الرغم من ذلك، قادوا تلك الشعوب إلى الهاوية والفقر والدمار. هناك تأويلات فرويدية شتى، يمكن أن تطرح حول الرواية، وهفوة غسان كنفاني في رؤيته الذكورية.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.