هستيريا: يا داعشيّ!

20 ديسمبر 2015
+ الخط -
هل من الممكن أن يخطر ببال أحدهم أن يوصف كاتب ليبرالي منفتح، مثل حازم صاغية، أو مفكّر مستقل، كبرهان غليون، أو حتى غيرهما من كتّاب وباحثين قوميين ويساريين، بأنّهم دواعش أو نصرة أو زرقاويون؟
ليس ممكناً فقط، بل حدث ذلك فعلاً، ووجدنا من يصف هؤلاء وغيرهم بتلك الأوصاف المتناقضة تماماً مع أفكارهم وطروحاتهم ومقالاتهم، لا لشيء إلاّ لأنّهم لا يقبلون الاكتفاء بإدانة داعش ووصفها بالفعل الإرهابي والمتطرف، بل يريدون أن يفهموا ويفسّروا ويشرحوا كيف صعد هذا "الفرانكشتاين" في عالمنا العربي؛ ما هي الشروط والأسباب؟ ومن هم المسؤولون والمتورّطون بسياساتهم وأخطائهم عن انبثاق داعش وشقيقاتها في عالمنا العربي اليوم.
وهو وصف، أيضاً، لمن يطرح علامات تساؤل واستفهام على الاستراتيجيات الغربية والإقليمية في مكافحة الإرهاب، التي تركّز على "النتائج" والمخرجات، لا على الأدوات، في سورية والعراق وأغلب بقاع العالم العربي. فإذا قال أحدهم كيف تريدون التخلص من داعش، وهي نتيجةُ سياسات الإقصاء والتهميش وفشل الدولة في هذه البقعة من الأرض، أو هي نتيجة طبيعية للدولة السلطوية العربية، واستجابة متوقعة للثورة المضادة التي تعمل على ترميم النظام الاستبدادي على ثورات الربيع العربي؟ سيلقى التهمة نفسها.
المفارقة تبدو في أنّ هذه الدعوى (أنت داعشي) تكمن في أنها "نقطة التقاء" بين أنصار الأسد، من يساريين وقوميين مؤيدين له في العالم العربي، أو الذين يؤيدون إيران في المنطقة العربية، ويرفضون أي حديث عن نفوذها المتنامي ومسؤوليته عن الأزمة السنية في العراق، ثم سورية، وما أحدثته من بيئة مناسبة لنمو هذا التيار.
ينضم إلى هؤلاء التيار المحافظ العربي الذي يقف في الخندق المناقض للربيع العربي، ويريد أن يضع حركات الإسلام السياسي عموماً في حزمةٍ واحدة، فلا يفرق بين معتدل أو سلمي أو متطرف، ولا بين أخ مسلم ولا سلفي موالٍ للدولة أو حتى داعشي حقيقي، لأنّه يرفض تحميل ما يحدث من انقلاب على المسار الديمقراطي مسؤولية الفوضى والأزمة العربية، فقط يريد إلصاقها بالربيع العربي الذي دفع الإسلاميين إلى الواجهة.
بالضرورة يشترك مع هؤلاء جميعاً التيار العريض المغرم بنظرية المؤامرة، فيريد اختزال صعود داعش، بوصفها لعبة أميركية أو إسرائيلية في المنطقة العربية. ومعه التيار العلماني المتطرف الذي يرى في لبس الحجاب والصلاة وأي شعائر إسلامية دلالة على الداعشية والتدعيش.
عندما تجتمع هذه التيارات على الاكتفاء بإدانة داعش، وتوصيفها بأنّها جماعة إرهابية، وهي كذلك بالطبع، من دون محاولة التفكير الموضوعي والمنهجي والعلمي في أسباب صعودها وانتشارها واستقطابها آلاف الشباب العربي والمسلم، وقدرتها غير المسبوقة على التجنيد، وتتنازل هذه التيارات عن المدخل المعرفي البحثي في التفسير والتفكير، عندها تحدث القطيعة الكبرى الخطيرة بين جيل من الشباب الذين يبحثون عن "مشروع" بديل، ويوتوبيا وهمية تغريهم بها داعش (في العالم الافتراضي، لكنّها في الواقع "الرقة والموصل والمناطق التي يسيطر عليها التنظيم" نموذج لليأس والبؤس والخديعة)، فيخضعون لعملية "غسل دماغ" مذهلة، من جهة، والطبقات السياسية والمثقفين المتكلسين والصحافيين الكسولين والمجتمع الذي يستسهل تبرئة الذات وإدانة الآخر/ من جهة أخرى.
هذه الفجوة المعرفية الهائلة المتزاوجة مع فقر معرفي وإصرار على عدم الإدراك من شريحة واسعة هي التي تفسّر لنا "ندرة" الدراسات والأبحاث والكتابات الجادّة في قراءة وتفسير وتحليل صعود داعش ونموها وتمددها، وقدرتها على استقطاب عشرات الآلاف من الشباب العربي والمسلم في أكثر من 50 دولة.
ولعلّ هذا الخلل الكبير في الفهم هو نموذج آخر في تفسير الحلقة المفرغة في العالم العربي؛ عندما تقوم الحكومات التي تخلق التطرف والإرهاب، بسياساتها وخطاياها، بتقديم نفسها بوصفها المدافع الأول عن القيم المدنية والحضارية واستقرار الدول في مواجهة الإرهاب، وفق المنطق نفسه، يبيع بشار الأسد نفسه، اليوم، بوصفه العدو اللدود لداعش في سورية.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.