هزيمة الثقافة وثقافة الهزيمة

21 يوليو 2017

غسّان كنفاني بشّر بالكفاح المسلح في "أم سعد"

+ الخط -
أثار مقال الكاتب نصري حجّاج "غسّان كنفاني قتيل السياسة" في "العربي الجديد" (14 يوليو/ تموز 2017) عاصفة من الجدل، وفجّر في وجه كاتبه براكين غضب، وانهال على رأسه سيل من التهم، بدءًا من الارتزاق، وصولًا إلى العمالة وخدمة العدو.
ومع أن نص حجاج يستحق أن يُنقد وبقسوة، إلا أن عشرات التعليقات التي ضجّ بها فضاء التواصل الاجتماعي حوله، ومقالاتٍ عدة على مواقع قريبة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو تابعة لها؛ خلت تقريبًا من نقدٍ موضوعيٍّ للنص، ونضحت بفيض من الشتائم والسباب والتهم الشخصية المرسلة لشخص الكاتب.
في البدء، لا بد من الوقوف أمام ظاهرة (أو لوثة) التطرّف التي أظهرتها الردود على المقال، والتطرّف مرضٌ قديم أصاب اليسار العالمي منذ نشأته، وبطبيعة الحال اليسار العربي والفلسطيني؛ يعكس جمودًا في الفكر، وبعدًا عن التفكير، وسطحيةً في الثقافة، وضحالةً في الوعي، وفوق ذلك فقرًا في الأخلاق. هو بذلك (أي التطرّف) لا يمت بصلةٍ ألبتة إلى الراديكالية، أي الجذرية. وهذه تتطلب مِمّن يعتنقها التَمَثُل بصفاتٍ تتناقض جوهريًا مع تلك التي تسم المتطرّفين. فلا بد للإنسان أن يكون على درجةٍ من الوعي، ليتحول إلى التفكير الجذري الذي يسعى إلى تغيير العالم، مستندًا إلى العلم والمعرفة والنظرة الموضوعية للذات والمحيط، بينما يحتاج الإنسان فقط إلى جمجمةٍ خاويةٍ وعقدة نقصٍ ونزعة طهرانيةٍ مريضة، ليضحي متطرفًا أخرق.
والمشكلة أن بعضًا من الملوّثين بهذه اللوثة يشغلون مواقع في أحزاب اليسار، ويؤثرون
بأنصاره، خصوصا الشباب الذين ينبهرون بحدية هؤلاء، وكلماتهم القاطعة، ووقاحتهم التي يتوهمونها شجاعة، فيرونهم مبدئيين، وذوي مواقف ثابتة، بينما هم، في حقيقة الأمر، انتهازيون طفُولِيّون، يسعون إلى البروز والظهور عبر الصراخ والردح والتشنج المُفتعل.
في النهاية، أدت الجلبة التي أحدثها هؤلاء (أكاد أجزم أنهم لو عاشوا في زمن غسّان كنفاني لكانوا من زمرة من اتهموه باليمينية البرجوازية، وأنه يقبض بالدولار من دور نشر وصحف عالمية داخل الجبهة الشعبية) إلى تسليط الضوء على نصٍّ متواضع، ما كان يستحق كل هذا الاهتمام.
لم يكن نصري حجّاج موفقًا في نصه سالف الذكر، لا من حيث المضمون وحسب، بل حتى البناء الذي جاء مختلاً ورخوًا، عنوان المقال عن غسّان كنفاني "قتيل السياسة"، بينما استُهلك معظمه بمهاجمة تجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مطلع السبعينيات. قفز الكاتب بين العام والخاص، ومن فكرةٍ إلى أخرى، بشكلٍ خشن وغير مفهوم، الأفكار مفكّكة وغير مترابطة.
حاول المقال أن يتعرّض لقضايا كبرى، مثل دور المثقف في الثورة والعمل الحزبي، والتجربة التاريخية للجبهة الشعبية وعلاقتها بحركة فتح، وتبنيها الماركسية اللينينية، وأساليب الكفاح المسلح ونهج "المجال الخارجي" للجبهة، وكلها قضايا تستحق أن تناقش عبر بحث جدي، لا بالشكل المبتور الذي قدّمه الكاتب، المليء بالمغالطات المنطقية. ليحاول في نصوص مقبلة أن يقدّم تحليلًا، يستند إلى مبادئ البحث العلمي، يوضح العلاقة السببية بين المنطلقات والنتائج، ويبرهن عليها لنناقشه، أما ما قدّمه في مقاله المشار إليه؛ بمنتهى التجرّد والموضوعية، فلا يستحق أن يردّ عليه. وسيكتفي هذا المقال بمناقشة الكاتب بشأن ما كتبه عن غسّان كنفاني ودوره الحزبي، بسبب ما أثير حوله من لغط.
يكتب نصري حجّاج، في مطلع مقاله، إن "مطرح" غسّان كنفاني "لا يجب أن يكون داخل هذا الإطار (الجبهة الشعبية) أو الأطر الفلسطينية الأخرى". بعد هذه الجملة مباشرة، بدأ يتحدث عما وصفه "جموح" الجبهة الشعبية، وأنها "فهمت النضال الفلسطيني بطريقةٍ ساذجةٍ واستعراضية كفاحية". طالما أن حجاج رفض من حيث المبدأ أن يكون غسان عضوًا في الجبهة، أو سواها من الأطر؛ فما الفرق الذي يُحدثه هجوم الكاتب على الجبهة الشعبية بعد ذلك؟
ثم يقفز إلى فكرةٍ صادمة، حين حمّل غسان كنفاني نفسه مسؤولية استشهاده، واعتبر أن انخراطه في صفوف الجبهة الشعبية، وشغله منصب الناطق الرسمي للجبهة في المرحلة التي شهدت صعودًا في عملها العسكري، خصوصا خطف الطائرات، كان خطأ ارتكبه وأودى بحياته.
يستطيع حجّاج أن يزهو هنا بأنه أسّس لمنطقٍ جديدٍ، لم تسبقه إليه إلّا الدعاية الصهيونية، وبعض عتاة المتساوقين معها من "عرب الاعتدال"، مضمونه أن من يلتزم بقضايا شعبه وينضوي في صفوف قوى مقاومته هو المسؤول عن استشهاده، لا العدو.
المقاتل الذي سقط وهو ينفذ عملية فدائية ضد جيش محتل هو ضحية في العرف والقانون الإنساني، كون الاحتلال عدواناً موصوفاً، بينما المقاتل كان يمارس حقه الأصيل، والمبتوت بشرعيته في الدفاع عن شعبه وأرضه. هذا بالنسبة للمقاتل الفدائي، فكيف لكاتبٍ وناطق إعلامي، لم يمتشق السلاح في حياته؟ أي منطق أعوج هذا الذي أتحفنا به حجّاج؟
يلوم على غسان انضمامه للجبهة الشعبية وشغله موقعًا قياديًا فيها، وكان عليه، حسب الكاتب،
أن "يبدع ويكتب، ويرسم، ويقرأ التاريخ الفلسطيني، وينقد الأدب، ويرسم الكاريكاتور"، لكن بعيدًا عن الانخراط في العمل النضالي الحزبي المباشر. والغريب أن الكاتب يدّعي معرفة شخصية بغسّان كنفاني الذي كرّس جل طاقته الإبداعية، كتابة أدبية ومقالية ونقدا أدبيا ورسما وبحثا؛ في الدعوة إلى الثورة والانخراط الشعبي فيها، غسّان الذي لام على الشعب الفلسطيني عدم قرعه جدار الخزان في "رجال في الشمس"، وبشّر بالكفاح المسلح في "أم سعد"؛ كان ينتظر منه الكاتب أن يمارس الأدب والفن بمعزلٍ عن السياسة والانخراط في حركة كفاح شعبه. هل حقًا تعرف غسّان كنفاني، يا نصري حجّاج؟
أنت ترفض فكرة المثقف العضوي. هذا شأنك، لكنْ أن تحمّل من قرّر أن يكون منسجمًا مع ذاته وأفكاره التي دعا الناس إليها، وانخرط عضويًا بوعيٍ في حركة مقاومة شعبه، كما يليق بمثقف وطني حقيقي، شعر بآلام شعبه، وأدرك مهام المرحلة التي تستدعي اشتباك الشعب، بكل فئاته وقطاعاته، مع المحتل والمنظومة العالمية التي تدعمه؛ أن تحمّله مسؤولية دمه، فهذه سقطةٌ كبيرةٌ إن كانت تعبّر عن موقفٍ جاء بعد تفكيرٍ وتمعن منك، مع أن مقالك تفوح منه رائحة نزق طفولي، كان عليك كبحه ولجمه، لا أن تتركه يعبّر عنك، ويورّطك بهذا النص الصغير.
جاء نص نصري حجّاج منسجمًا مع ثقافة الهزيمة التي تضرب رياحها الباردة أوصال أمتنا العربية اليوم، بينما جاءت الردود عليه لتعكس هزيمة الثقافة لدى بعضٍ من اليسار، يتكاثر في بيئة الهزيمة، كلاهما (ثقافة الهزيمة وهزيمة الثقافة) على تضادّ ظاهري، لكنهما، في المضمون، ابنان شرعيان للهزيمة.