هرم ماسلو في العالم العربي بين الحاضر والمستقبل

26 مارس 2019
+ الخط -
خلال منتصف أربعينيات القرن الماضي قدَّم أبرهام ماسلو عالِم النفس الأميركي نظريّة التحفيز البشري والتي عرفت بهرم ماسلو للاحتياجات، وهي عبارة عن تسلسل هرمي للدوافع التي تحرك الإنسان في مختلف مراحل حياته. وقد شكل محتوى النظرية نقطة انطلاقة للعديد من الأبحاث العلمية في مجلات متنوعة كالطبّ، التدريس، الإدارة وفن التسويق.

وتتدرج الحاجيات حسب ماسلو في خمسة مستويات، يبدأ الهرم من القاعدة، حيث نجد الحاجيات الفيزيولوجِية مثل الأكل والشرب، تلِيها حاجيات الأمن كالسلامة الجسدية والأمن الوظيفي. في المستوى الثالث تتمحور الفكرة حول حاجيات الانتماء الاجتماعي من تكوين صداقات وعلاقات أُسرية، تتبعها حاجِيات التقدير والتي ترتبط بتحقيق المكانة الاجتماعية المرموقة، الثقة، احترام الآخرين لنا، وفي أعلى الهرم يوجد ما يسمى بالحاجيات العليا وهنا تحدث ماسلو عن حاجة الفرد إلى تحقيق ذاته وتطويرها والحديث عن إنجازات معينة.

وفقا لجوهر النظرية، تظهر حاجِيات مستوى ما بعد إشباع حاجيات المستوى الذي قبله؛ بما معناه أنه لا يمكن مثلا الحديث عن رغبة الارتباط وتكوين أُسرة في ظل غياب مورِد مالي، الدافع عند الإنسان هو عملية سيكولوجية تعمل على إثارة سلوكه وتوجيهه نحو هدف ما، أي أن افتقار الشخص لشيء محدد يمثل ضرورة من شأنها أن تخلق قوة حيوية، فيها ميل مقرون بالإرادة طبعاً لتحقيق ذلك المبتغى، فعلى سبيل المثال، حاجتنا إلى الكسب المادي هي دافعنا للبحث عن العمل، رغبتنا في تحصيل المعرفة هي محركنا لاستكمال دراساتنا الجامعية.


وسيرورة التحفيز الإنساني هذه تمر بمجموعة من المراحل، فالحاجة الناشئة عن النقص تولد حالة من التوتر والذي يدفعنا إلى النشاط فيزول ذلك التوتر، فنستعيد بالتالي توازننا الذي يبقى مستقرا إلى حين ظهور رغبة جديدة، وإعادة نفس العملية، وهكذا دواليك يقضي المرء حياته.

إن محاولة إعطاء أي تصور لهذه النظرية البسيطة في مضمونها بعالمنا العربي، ستأخذنا إلى الواقِـع التالي:
الفرد العربي لا يزال يحارب من أجل لقمة العيش، لا يزال يخوض معارك من أجل توفير الاحتياجات اللازِمة للحفاظ على حياته، للأسف معدلات الفقر في أغلب الدول العربية مرتفعة، وهكذا تظل الأغلبية محصورة في الاحتياجات الدنيا لا تدري شيئا عن باقي الهرم. وحتى عندما يستطيع الفقير تأمين أساسيات الحياة يصر على المزيد من الإشباع ولا ينتقل إلى حاجة أعلى منها. وهذا ما يفسر إفراط الفقراء بعد أن يغنيهم الله في الأكل والشرب والملبس.

هنالك فئة لا بأس بها من حيث العدد، استطاعت أن تجتاز المستويين الأول والثاني، وأن تجد لنفسها طموحات أكثر في الحياة، وهنا أقصد الطبقة المتوسطة ذات الاحتياجات المتوسطة.. يطمح الفرد المنتمي لهذه المجموعة إلى قبول اجتماعي والانتماء لمجتمع راق يقدره ويحترمه..

أما بالنسبة للقفز إلى أعلى القمة، فالمواطن العربي الذي استطاع فعلا حل مشاكله المادية والاجتماعية والأمنية بامتياز، والارتقاء إلى قاطرة الابتكار والإبداع والعطاء والتغيير قلة قليلة، يمكن أن نتكلم عن واحد من أصل ألف شخص، قادر على الوصول لهذه المرحلة، الانتقال مما هو خاص إلى ما هو عام، يعني الانتقال من منظور الفرد إلى منظور المجتمع والذي يسوقنا للخلاصة ذاتها: المجتمعات العربية غير قادرة على إشباع حاجِياتها المنخفضة، لا تزال تصارِع من أجل بقائها لا من أجل نهضتها، وهذا ما يشكل مصدر إحباط بدلا من وجود محفزات الارتقاء إلى ما هو أفضل..

وهذا الأمر ليس محض صدفة، وإنما نتاج تكتيكات نفسية سياسية داخلية وخارجية، وسنة استراتيجية اتبعها أصحاب السلطة حتى يحافظوا على نفوذهم. فاستمرارية أغلب الأنظمة السياسية العربية رهِينة بمدى إذعان الشعوب لها والبقاء تحت سيطرتها.. وكي يحدث ذلك، لا سبيل أمام النظام سوى إضعاف محفزات الشعب في الحياة، فكيف يمكن إقناع من يتضور جوعا ولا يَجد مسكنا يؤوِيه بأهمية حرية الرأي والتعبير واستقلالية القضاء والإعلام؟.. يستمد النظام الحاكِم قوته من وجود هذه الأغلبية الفقيرة، فحين تعتبر الطبقة المتوسطة عصب المجتمع وشوكة في حلق أعدائه. أما الفئة الثالثة، فغالبا ما تنال مرادها خارج ربوع وطنها.

إن وجود دافع لدى المواطن العربي من أجل المطالبة بحاجته إلى صناعة القرار السياسي وتغذية الديمقراطية، يعني استمرارية الضغط على السلطة الحاكمة لتحسين أدائها أو التنحي جانبا، وهذا ما لا يريدونه؛ لذا يعملون جاهدين على إطفاء الدوافع ونشر ثقافة الخوف والتردد: "أتريدون أن نصبح مثل سورية؟".

ولم لا نكون مثل الدول المتقدمة حيث تطورت النظرية لتتماشى مع الحاجيات الجديدة لمجتمعاتها، فأصبحوا مهتمين بالاحتياجات المعرفية والسعي نحو الجمال والفن، والوصول إلى ما هو أسمى من تحقيق الذات؛ وهو تجاوز الذات الذي يعني مساعدة الآخرين لتحقيق ذواتهم، ولعل هذا ما يفسر كيف أن هذه الدول المتقدمة ترحب بالكفاءات العربية..

رِهاناتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية القادمة هي أن نعلي سقف تحدياتنا وأن تكون همتنا عالية، أن يكون حافزنا أعمق من راتب شهري وامتلاك منزل وسيارة كأقصى تقدير، علينا أن نبدأ الهرم من الأعلى، ولا نقف كثيرا عند الجوانب المادية.

علينا أن نرقى بسلم أولوياتنا كأفراد، وهكذا سيرقى أتوماتيكيا سلم أولوياتنا كمجتمع وكأمة.

رغم كل شيء، سيكون للعرب نظريتهم الخاصة للتحفيز، سيكون هرمنا نموذجا ومعيارا لقياس طموح الإنسان للأجيال القادمة، سيكون هرمنا أكثر مرونة وحماسة وقوة، ركيزته العدل والجمال والنظام والقيم الروحية والأخلاقية، وإن غداً لناظره قريب.
A34A5C1B-9A17-4B8E-80AD-CC42706710F7
وفاء أبجمة

مغربية الجنسية، مهتمة بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. القلم هو شغفي الأول والأخير.