هذه مسؤولية الفلسطينيين وداعمي قضيتهم

17 مايو 2020
+ الخط -
على مدار العقود الماضية، نشط الفلسطينيون وداعمو القضية الفلسطينية في أوروبا وأميركا، على صعيدي البحث وتغيير الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية، وتم صدور العديد من الكتب التي توثق لجرائم التطهير العرقي من عام 1948 ولغاية الآن، وتحديدًا بعد الانتفاضة الأولى، حيث كان هناك نشاط فكري ومجتمعي أدى إلى تغيير نوعي في مسار السرد للأحداث، والذي كان يغلب عليه سابقا الرواية الصهيونية.

في المقابل على الصعيد العربي، وبالرغم من وجود الدراسات والأبحاث التي تسرد تاريخ القضية، لم يتم العمل عربيًا على وعي المجتمع العربي للقضية الفلسطينية، وربما تم الاكتفاء بالبعد العاطفي لها كقضية عربية أو إسلامية لدى العرب والمسلمين معًا، واستغلت الأنظمة العربية، بما فيها القيادة الفلسطينية، هذا البعد العاطفي والديني بما يتناسب مع مصالحها لتتحول القضية الفلسطينية إلى أداة، في بعض الأحيان لقمع القضايا المحلية للشعوب العربية، وأحيانا للتفاوض على، أو كسب بعض المصالح للأنظمة العربية، وفي نفس الوقت كسب تأييد الشارع العربي.

ومع التغييرات التي تحدث في المنطقة على صعيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، خرجت أصوات يراها البعض جريئة وغير معهودة في ما يتعلق بالعلاقة مع هذا الكيان، والبعض الأخر يراها استثناء أو أنها تعبر عن الرأي الرسمي الذي يهرول له من يقود عملية التطبيع بسرعة قاتله قد تؤدي الى صدام بينه وبين الشعوب.

لكن السؤال هنا: عندما كان الرأي الرسمي مساندًا للقضية الفلسطينية، هل كانت المساندة للموقف الرسمي أم للقضية نفسها؟ هل كانت هذه المساندة قائمة على وعي شعبي عربي للقضية، أم إنها اقتصرت على الأبعاد العاطفية الإثنية والدينية، كقضية عربية إسلامية؟


إن المراهنة على البعد العاطفي للقضية الفلسطينية لدى الشعوب ستكون خاسرة لأن العواطف تتغير ويتم التلاعب بها، كما أنها غالبا إذا لم تكن نتاج وعي سياسي وتاريخي للقضية سيكون من السهل تغييرها، خاصة إذا ما وضعت القضية مقابل المصلحة الشخصية للأفراد. ضمن حدة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها المنطقة، زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، تكريس الثروة في أيدي وسطاء الشركات العالمية الكبرى، وتقليص دور الحكومات في الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية عموما، وسيتضاعف التمييز والعنصرية وغيره من عوامل عدم المساواة في المجتمع، وجود العديد من اللاعبين والعوامل وأثره على حياة الفرد اليومية، وليس من السهل تحليله وفهمه من الجميع، وبالتالي يستسهل الكثيرون عادة الأخذ بالرواية الرسمية، وبما يقدم لهم من تبرير لفهم ما يمرون به من ضغوط اقتصادية وغيرها، وكما نرى الآن في بعض الدول، فإن الأزمة الاقتصادية وعدم كفاية بعض الشعوب يبرران بأنهما نتيجة لاستنزاف القضية الفلسطينية اقتصاديا لهذه الدول وأن مرحلة العداء مع الكيان الصهيوني كلفت هذه الدول ثروات هائلة كان من الممكن استخدامها لصالح هذه الشعوب.

إن المراهنة على البعد العربي للقضية لا تقل خطورة عن البعد العاطفي، فإذا كان سبب دعم القضية الفلسطينية بعدًا إثنيًا يرتبط بالانتماء بشكل مقصور وضيق لهوية عربية تعتبر أسمى من غيرها، هنا نحن نكرس العنصرية عوضًا عن محاربتها. إن القضية الفلسطينية في أساسها قائمة على محاربة العنصرية، لذا فإن أي بعد لا ينسجم مع جوهر القضية سيؤدي إلى مقتلها.

إن تكريس القضية الفلسطينية ضمن البعد العربي العنصري أيضا لن تكون له حدود، فأي بعد عنصري سيكون قابلًا لأن يتجزأ إلى أجزاء صغيرة تكون أحيانا أخطر من العنصر نفسه، مثل الهويات الوطنية القطرية التي نجحت الأنظمة العربية بالتأسيس لها، والإشكالية الخاصة بالقضية هنا بأن الهوية الفلسطينية تستخدم مقابل الهويات الأخرى، فإذا كان لا بد، على سبيل المثال، للأردني، اللبناني، السعودي أو المصري أن يؤسس لهويته بشكل ينسجم مع الوضع الراهن، فلا بد أن يكون هذا بشكل أساسي ضد الفلسطيني، سواء كلاجئ، مواطن في هذه الدول أو مهاجر..

ضمن هذا الوضع أيضًا لم تتوانَ الدول العربية المختلفة عن الاستمرار في تهميش الإثنيات من غير العرب، وتسميتها بالأقليات، والتي هي جزء لا يتجزأ من المنطقة وحضارتها وتاريخها، في محاولة لفصل الشعوب حتى محليا بعضها عن البعض الآخر، مما همش جزءًا كبيرًا من سكان المنطقة، وفصلهم عن قضاياها وعمل على تغريبهم، وفي حالات كثيرة عزلهم عن القضايا المحلية والقومية، بما فيها قضية فلسطين.

لقد أسس هذا الوضع لعدد من التحديات التي تواجه المنطقة الآن من إقليمية، طائفية، عشائرية، وجهوية، ومحاولات انفصال لتشكيل دول قُطرية صغيرة لن تستطيع العيش في المنطقة بدون أن تكون لها ولاءات خارجية لحمايتها، وقد ظهر ذلك من خلال علاقة مثل هذه الدول مثل جنوب السودان، أو بعض الحركات الكردية مع الولايات المتحدة، ونظام الفصل العنصري والاستيطاني في فلسطين، ولا يمكن أن نقوم بلوم هذه التوجهات دون النظر إلى ما قد يوصل هذه الحركات إلى الانفصال التام، وفي أحيان كثيرة إلى كُره شديد للعرب وتوجه للتعامل مع الكيان الصهيوني، إلا بالنظر إلى كيفية استخدام البعد العربي كبعد عنصري.

لذا على الفلسطينيين وداعمي القضية الفلسطينية ألا ينزلقوا في أي بعد عنصري وتصحيح وإعادة صيغة لما يعنيه البعد العربي للقضية ليتعامل مع سياق تاريخ ومصالح اقتصادية سياسية عوضا عن هوية إثنية استخدمت بشكل ممنهج لاستثناء وتبرير الظلم الواقع على الإثنيات الأخرى في المنطقة، والتي تستخدم الآن للتعبير عن ما يدعى "إنهاك القضية الفلسطينية للعرب".

البعد الأساسي للتعامل مع القضية الفلسطينية هو من خلال الوعي بالسياق التاريخي والسياسي للقضية، وبما لا يفصلها عن تاريخ وسياق الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المنطقة. البعد الآخر هو عدالة القضية، أي قضية عادلة لا يمكن أن يتم التلاعب بها عاطفيا لأن التأسيس لعدالتها يكون بفهم الحقائق وبالتوجه لوعي الأفراد وليس الوعي الجمعي فقط. الوعي الجمعي الذي لا ينتج عن وعي فردي بمعنى أن يكون كل فرد في الجماعة مستهدفًا، وأن يشكلوا آراءهم بناء على فكر شخصي يحتكم للحقائق وليس لأفكار من يقودونهم، بالضرورة سيكون متغيرًا ويسهل التلاعب به.

إن مسؤوليتنا كفلسطينيين وداعمين للقضية الفلسطينية هي الحفاظ على الإرث التاريخي للقضية، هذا الإرث المبني على عدالتها، لذا علينا ألا نأخذ الرأي العربي المساند للقضية كأمر مسلم به أو نكتفي بالتخوين أو الاتهامات عند تشكيك البعض بعدالة القضية، ما علينا عمله هو ما برع فيه أجدادنا وجداتنا من سرد للتاريخ الفلسطيني والحكايات يوميا وبدون كلل أو ملل، حكايات لم تجسد فقط ما حدث بل أيضا عبرت عن فلسطين لتعني الجميع، عربًا وغير عرب من مسلمين، مسيحيين ويهود وبطوائفهم المختلفة. قصص تحكي قصة مكان كان يمكن أن يحتوينا باختلافاتنا الكثيرة، مكان تميز ليس بتمييز أصحابه بيولوجيا، إثنيا أو دينيا، بل أهم ما ميزه هو اختلاف عناصر مكوناته وانسجامها في نفس الوقت. أن تكون فلسطينيًا أو داعم/ة لفلسطين يعني أن تكون كل هؤلاء، وأن تبقي على قصتك كما هي محررة من كل أبعاد العنصرية والفئوية، وألا نمل من تكرارها.
دلالات
B8C3DF2D-6FFD-448C-9C64-21CD157D54E8
عفاف الجابري

باحثة فلسطينية وأستاذة مشاركة في قسم دراسات اللاجئين في جامعة شرق لندن