هذه البناية...

15 مارس 2017
+ الخط -
كان سكان البناية يعانون، أشد المعاناة، من هذا الأمر الذي أصبح من غير الممكن السكوت عنه بأي حال، فالقمامة منتشرة في كل أنحاء البناية، والواجهة أصبحت قبيحة المنظر، وانهار الطلاء في معظم الأجزاء، بل أصبحت الواجهة الأقبح من بين كل عمارات الشارع والحي، لكن الطامة الكبرى كانت في مواسير المياه والصرف الصحي، فقد كانت في أسوأ الحالات، ولم يتم إصلاحها وصيانتها منذ زمن بعيد، ناهيك عن حال المصعد الذي نادرا ما يصعد أو يهبط أو يستجيب لأي شيء، بجانب انتشار الرائحة الكريهة التي أزكمت الأنوف، فلم تعد منتشرة فقط على السلالم والطرقات، وإنما أصبحت الشقق السكنية أيضا معبأة بها، مهما استخدم صاحب الشقة من وسائل للتغطية عليها، فلم يُجدِ البخور ولا المعطرات، ولم ينفع إحكام غلق أبواب الشقق، أو وضع مواد عازلة حول الحوافّ في منع دخول الرائحة التي أصبحت لا تطاق، بل أصبحت رائحة هذه البناية تنتشر في كل الشارع، وتزحف كل فترة في المنطقة كلها.
عدد ضخم من السكان والشاغلين في البناية، فهي الأقدم والأضخم والأعرق بين كل بنايات الشارع، بل والحي كله، ويفترض أن فيها اتحاد ملاك وشاغلين، يمثل مجلس الإدارة لكل السكان والملاك لتلك العمارة، ويفترض أن يختار كل مالكي البناية وساكنيها مجموعة تمثل رئيس اتحاد الملاك والشاغلين، بالإضافة إلى عدة مساعدين ومعاونين، بهدف التفرغ لإدارة شؤون البناية وجمع الاشتراكات الشهرية، وإعداد ميزانية للموارد التي تشمل الاشتراكات والإيجارات، بالإضافة إلى المصروفات التي تشمل الصيانة والإصلاحات والخامات وأجور الحراسة والخدمات والنظافة والكهرباء.
ولكنّ هناك شيئا عجيبا، فرئيس اتحاد الملاك والشاغلين الذي تولى منصبه هذا قبل سنوات قليلة ملأ الدنيا وعودا بأن يعيد البناية إلى سابق عهدها، وأن يجعلها الأجمل والأكثر تطورا بين كل عمارات الشارع، بل بين كل عمارات المنطقة، لكن الحال أصبح أسوأ، ولم يتحقق شيء من وعوده الفضفاضة التي أطلقها قبل توليه المنصب.
الأعجب أن وعده الأكبر كان الحفاظ على البناية من الانهيار، لكن السكان وجدوا أنه يحافظ
 على مظاهر الإهمال نفسها التي ستؤدي حتما إلى الانهيار، مهما أطلق من وعود براقة، وكان عندما يواجهه ملاك الوحدات وشاغلوها بتلك الوعود، أو عندما يثور عليه أحدهم، فإنه كان يتفاخر ببعض الإجراءات الروتينية للصيانة التي كان يعتبرها إنجازاتٍ، على الرغم من أنها من الحد الأدنى لأعمال الصيانة في أي بنايةٍ محترمة ونظيفة. فكان مثلا يتفاخر بدهان بعض أجزاء الواجهة، على الرغم من أن بعض الحوائط كانت فيها شروخ عميقة، تهدد سلامة البناية والسكان، وكان كذلك كثير التفاخر بالتعاقدات الجديدة والمتكرّرة مع شركات الصيانة والخدمات التي تستنزف موارد العمارة القائمة، في الأساس، على تبرعات السكان، على الرغم من أن كثيرا من تلك التعاقدات كانت إهدارا كبيرا للموارد، فلا صيانة حقيقية، ولا تحديث، ولا تحسين للخدمات، هذا بالإضافة إلى غياب العدالة في التمتع بالخدمات المستحقة، فقد كان حوّل رئيس اتحاد الملاك مجموعة كبيرة من ذوي المناصب والنفوذ، خصوصا من رجال الشرطة والجيش والقضاء وكبار موظفي الدولة، كان هؤلاء فقط هم من يتمتعون بالخدمات التي يفترض بها أن تكون مستحقةً لجميع السكان، أما باقي السكان الغلابة فكانوا يعانون دائما من مشكلاتٍ متكرّرة، مثل تعطل المصعد، أو انقطاع التيار الكهربائي، أو المياه أو الغاز.
وفى أوقات نادرة، كان رئيس اتحاد الملاك يقوم بحملة من أجل الصيانة والتطوير، لكنها كانت حملات صورية ودعائية، وتتكلف من البهرجة والاحتفالات والدعاية أضعاف أضعاف تكاليف الصيانة الأصلية. بالإضافة إلى أن تلك الصيانة الصورية المصاحبة للحملات كانت دائما بعد وقوع كوارث، مثل انهيار جزء من العمارة، أو بعد مقتل أحد السكان، بسبب الإهمال المتراكم. وبعد ذلك، يبدأ أنصاره من السكان في تعليق لافتات الشكر والتمجيد والتزلف والنفاق عدة شهور متواصلة، بعضهم كان يفعل ذلك طمعا في القرب، أو في إحدى نفحات رئيس اتحاد الملاك والشاغلين، فهو يفعل ذلك مع كل رئيس اتحاد، وبعضهم كان يفعل ذلك بتلقائية، أو لأنه يخاف دوما من التغيير، فقد كانت كلمة الإصلاح والتغيير في تلك البناية من الكلمات المحظورة، وسيئة السمعة، بسبب المحاولات الفاشلة للإصلاح.
ولكن كيف بدأت القصة؟ الأمر ليس جديدا، فهذا الحال المؤسف مستمر منذ سنوات، ربما كانت البداية عندما تولى هذا الشخص البليد العنيد الفاسد رئاسة اتحاد ملاك العمارة، ويقول بعضهم
إن بداية الانهيار كانت قبل ذلك بكثير. وعلى الرغم من أن هذا الشخص البليد العنيد تولى إدارة البناية مصادفة، لكنه قبع على إدارتها سنوات وسنوات، ساءت فيها الأحوال والخدمات، بخلاف الفساد الضخم في ميزانية البناية، وإهدارها بشكل فج، وهو ما أدى إلى انتفاضة سكان البناية ومالكيها ضده في مشهد ضخم غير مسبوق في ذلك الشارع، مشهد جذب انتباه كل العمارات في المنطقة كلها، وأدى، في النهاية، إلى عزل رئيس اتحاد الملاك البليد من الإدارة، وتولى من بعده أحد الشيوخ من سكان العمارة الذي استبشر بعضهم به خيرا في بداية توليه المسؤولية، فقد كان مشهودا له بالتدين وطهارة اليد. ولكن، عند توليه المسؤولية، ارتكب أخطاء عديدة في زمن قصير، ما أدى إلى تسهيل مهمة عزله من أنصار الشخص البليد العنيد الذي سبقه من قبل في رئاسة اتحاد ملاك العمارة، فالشيخ للأسف كان له هو الآخر أهل وعشيرة ومؤيدون، وأدى اهتمامه بأهله وعشيرته من السكان وتفضيلهم على باقي سكان العمارة إلى تسهيل التآمر ضده، لكن أخطاءه وأسلوب أهله وعشيرته أدى إلى نفور نسبةٍ كبيرة من سكان العمارة، وقد أدى ذلك إلى هبّةٍ كان معظمها مفتعلا. ولكن، لم يتحسن الأمر بعد ذلك، بل أصبح أسوأ من كل ما سبق! فرئيس اتحاد الملاك الحالي هو تلميذ البليد العنيد، لكنه أكثر ديكتاتوريةً وفجاجة وحماقة في الوقت نفسه، فهو الأكثر كذبا من كل من سبقوه مجتمعين. ولذلك، لا حرج لديه عندما يحوّل الإخفاق نجاحا وهميا وإنجازات خيالية. ولذلك، لا يخجل عندما يسعى، هو وأنصاره، إلى طرد مالك أو مستأجر لإحدى الشقق، بل لا يتوارى في استخدام أساليب الإرهاب والبلطجة ضد كل من يعترض على أسلوب إدارته البناية، أو ضد كل من يتحدث عن المخالفات المالية والإدارية الجسيمة لمعاونيه الذين هم، بالمناسبة، أسوأ من عاونوا البليد العنيد من قبل، وتسببوا في خراب البناية وخدماتها.
ولكن، حدث أمر تعجب له كل سكان الحي والأحياء المجاورة سنوات بعد ذلك، فعندما جاءت الفرصة مرة أخرى مواتية، لتغيير هذا الرئيس الديكتاتور الأحمق، وإمكانية استبداله، كرّر جميع المعترضين أخطاء الماضي نفسها، كأنهم لم يتعلموا أي شيء من أخطائهم.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017