هذه الأمة لن تموت

18 ابريل 2019
+ الخط -
يُخطئ من يظن بأن الأمة العربية قد ماتت! ويُخطئ كذلك من يظن بأن الشعوب العربية شعوب داجنة مُستأنسة؛ ترضى بالظلم وتقبل الضيم وتخضع للطغاة، وتشرب السمّ راضية ولا ترفع صوتاً أو تُشعل ثورة!

من يقُل بهذا القول فقد جنى على الأمّة، وظلم تاريخها المشرق في مواجهة المستعمرين وأذنابهم من الحكام المستبدّين، وخان دماء الشهداء التي سالت في سبيل المقاومة والمواجهة؛ تلك الدماء التي سُجلت بحروف من نور في سجل الخالدين من تاريخ الثورات العربية.

هذه الأمة لم تبخل يوماً بدفع الثمن من دمائها وأموالها. فقد قدمت في سبيل عزتها وحريتها كل غال ونفيس، وسجلت دفاترها الناصعة أسماء الشهداء من الرجال والنساء، الشباب والفتيات، الصغار والكبار، المسلم والمسيحي. الذين لم تفرق بينهم ميادين الثورة، ولا دماء التضحية، ولا أموال التبرعات. إن الأمة العربية أمة ثائرة مضحية، وشعوبها واعية متيقظة، ربما يطول صبرها، ولكنها كالحليم إذا غضب لا يردّه رادّ ولا يوقفه أحد.


يقول الدكتور يوسف القرضاوي عن هذه الأمة: "إن الكوارث والنكبات لا تحطمها ولا تقتلها، بل تبعث فيها روح المقاومة والتحدي، فتراها إذا نزلت بها النوازل القاصمة، أشدّ ما تكون قوة وأصلب ما تكون عوداً، حتى إن الناس لَيظنون بها الظنون، ويحسبونها في عداد الهلكى، فإذا هي في فترة وجيزة تتغلب على عوامل الضعف المحيطة بها، بروح القوة المكنونة في داخلها، وإذا بالذين يرقبونها من بعيد أو ينظرون إليها من قريب، يرون انتصاراً بعد انكسار، واجتماعاً بعد شتات، وحياة وحركة بعد جمود أشبه بالموات. رأينا ذلك في فجر الإسلام في حروب الردة، ورأيناه في عصور التمزق للدولة الإسلامية ، في مقاومة غزوات التتار الوحشية. ورأيناه في مقاومة الحروب الصليبية التي زحفت فيها أوروبا على الشرق الإسلامي بقضّها وقضيضها وثالوثها وصليبها، فقتلت وحرقت وأفسدت ودمرت ما يعلمه كل دارس لتلك المرحلة. وفي العصر الحديث، رأينا الجهاد البطولي ضد الغزاة والمستعمرين، في سائر ديار الإسلام".

وبعرض سريع لتاريخ الأمة، ندرك الحقيقة الثورية لها ناصعة..
ففي المغرب: اشتعلت المقاومة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي والإسباني منذ عام 1912، في جميع المناطق بقيادة أحمد الهيبة بن نور العينين، وعبد الكريم الخطابي الذي هزم الإسبان في معركة أنوال واستطاع إخراجهم من عدد من المناطق الشمالية، وغيرهم من قادة المقاومة حتى تم التحرير، ودحر المستعمر.

وفي الجزائر: برزت أسماء الأمير عبد القادر الجزائري، وأحمد باي، والخليفة أحمد بن سالم، والشيخ المقراني، والشيخ بوعمامة وغيرهم في جميع مناطق الجزائر، لمقاومة الاحتلال منذ عام 1830. وقام الشيخ عبد الحميد بن باديس بمقاومة الطائفية والتقسيم المذهبي الذي أراد هوية الجزائر، ورفع شعار: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، ثم أسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931 التي افتتحت مدارس لتعليم ناشئة المسلمين، لتحفظ عليهم دينهم ولغتهم وهويتهم.

وفي تونس: بدأت القبائل تتجمع بجامع عقبة في مدينة القيروان برئاسة علي بن خليفة، وتعهدت على المقاومة المسلحة للاحتلال الفرنسي منذ عام 1881، رغم مهادنة السلطة وقتها للمستعمر، ثم انتشرت واستمرت حتى نالت الاستقلال.

وفي ليبيا: قاد الشهيد البطل عمر المختار المقاومة الشعبية القبائلية ضد الطليان، مع كبر سنّه عام 1912 وبدأ مع 1000 مقاتل من قبيلته فقط، حتى امتدت المقاومة وشملت جميع المناطق، وقد ظل المختار مقاوماً حتى عام 1931، حين وقع في الأسر وتم شنقه أمام شعبه.

وفي مصر: قامت الثورة الشعبية يقودها علماء الأزهر الشريف ضد الاستعمار الفرنسي بقيادة بونابرت منذ وطأت أقدامهم الإسكندرية عام 1798، وانتفضت القاهرة في ثورة القاهرة الأولى والثانية، وقدم المصريون الكثير من التضحيات حتى دحروا المحتل الفرنسي وطردوه. ثم ثاروا ثانية ضد المستعمر الإنكليزي، واشتعلت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، وخرج الشعب عن بكرة أبيه يقاوم، واستمرت المقاومة وأذاقت المحتل الويلات في مدن قناة السويس وفي مناطق تمركز الإنكليز، حتى نالت مصر حريتها واستقلالها.

وكذلك خاض السودان تلك المراحل والثورات ضد المستعمر الإنكليزي، وقاومت سورية ولبنان المستعمر الفرنسي لسنوات طويلة. وكذلك ثار العراق والخليج العربي ضد المستعمر الإنكليزي حتى الاستقلال. وفي فلسطين ما زالت الثورة مستمرة، ومواجهة المحتل كل يوم، وراية المقاومة يتسلمها جيل بعد جيل، ولم يبخلوا بتقديم كل ما يملكون لحماية المقدسات من دنس الاحتلال الصهيوني.

ولمّا حمل الاستعمار عصاه ورحل، ترك وراءه من يسير على خطه ويقتفي خطاه، ترك تلاميذ وفروخاً من جلدتنا. كان أغلبهم من العسكريين الذين جاؤوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية، وأمسكوا بتلابيبها لسنوات؛ تخلفت فيها البلاد في كافة المستويات السياسية والاقتصادية والتعليمية والعلمية، وغابت فيها الديمقراطية، وسيطر فيها حكم الفرد؛ الذي كثرت السجون والمعتقلات في عهده، وسالت دماء المعارضين، وانتشر الفقر والجهل والمرض بين المواطنين، وانقسم الوطن الواحد، وأصبح بلدين رُسمت بينهما الحدود، شمالاً وجنوباً، وظهرت الطائفية، وحُلّت جميع الأحزاب وتم إلغاؤها، وتصدّر الحكم الحزب الواحد.

ثم ماذا كانت النتيجة؟! كانت الهزيمة أمام إسرائيل، التي احتلت الأرض العربية؛ تلك التي بذلت الشعوب دماءها من أجل تحريرها وبقاء وحدتها.

هؤلاء القادة الذين عملوا على إضعاف الأمة وموتها، ليسهل لهم القياد ويدوم لهم المقام، ويضمنوا التوريث لأبنائهم من بعدهم. قد ظنّوا بأن الأمر قد استتبّ لهم، وأن الشعوب قد ألهتها صراعات البقاء، وقلق البحث عن الرزق!

وفجأة.. خرج العملاق - الشعوب - من قمقمه من حيث لم يحتسب الحكام، وقذف في قلوبهم الرعب، وهدم عروشهم الواهنة، وأزال دولتهم المتسلطة المستبدة؛ في ربيع الثورات العربية، الذي بدأ في تونس نهاية 2010 وأسقط دولة بن علي؛ الذي فرّ من هول المفاجأة هارباً أمام زحف الثوار الهادر.

ثم تسلمت مصر الشعلة في 2011، وبعد أيام من التضحية والدماء انتصرت الثورة وسقط حسني مبارك. واستمرت الثورة في طريقها متنقلة من بلد إلى آخر، فزارت ليبيا وأسقطت إمبراطورية القذافي، الذي قُتل تحت أقدام الثوار. ووصلت إلى اليمن وأسقطت دولة علي عبد الله صالح، وكانت نهايته قاسية. ثم توقفت في سورية التي تآمر عليها الغرب وروسيا، ووقفوا صفاً واحداً لوأد الثورة وحماية الأسد الجريح، ولولاهم لما بقي الأسد ودولته الطائفية شهوراً. كما مرت الثورة بالمغرب والأردن، ولكنها وجدت هناك عقلاء استطاعوا أن يتفهموا متطلبات الشعوب وطموحاتهم.

وبعد سنوات من سيطرة الثورات المضادّة، وعودة الانقلابات العسكرية، وهيمنة الدولة العميقة، وصعود رجال الأعمال الفاسدين؛ في جولة من الصراع الطبيعي بين الثورتين. وفي وقت هدوء واستراحة الشعوب المثخنة بالجروح؛ حسبت الثورة المضادّة ومموليها أن الأمر قد استقر لهم من جديد، وظنوا بالشعوب الظنون، واتهموها بالموت؛ حتى انتفضت الشعوب، وتفجرت الثورات مرة ثانية، وعادت الموجات قوية، والأصوات هادرة صاخبة.

وقد زحفت الشعوب من جديد بالألوف إلى الميادين، تطالب بإسقاط الأنظمة الفاشلة والفاشية. وقد حققت بعض النجاح في الجزائر والسودان هذه المرة، وتم إجبار بوتفليقة على الانسحاب، وخلع البشير في السودان. وما زالت الثورة مستمرة في البلدين بشكل مفاجئ، ونتائج مفاجئة مبهرة. تُعلم من جديد، وتنذر الطغاة ومن خلفهم بأن الشعوب حية ثائرة، ربما تمرض بعض الوقت، لكنها أبداً لن تموت.
F9564B83-FF50-486A-9BC1-A882E1477F2C
وليد شوشة

كاتب مصري مهتم بالفكر والسياسة ورفع الوعي وإعادة تشكيل العقل العربي ليتناسب مع المعطيات الجديدة.يقول: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكبيرالكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة.