لم يكن ما حدث إلا ليحدث، وسيظل يحدث، ولن تنتهي القصة بما يشتهي المشروع الصهيوني ومسايروه. ليس الأمر مجرّد "ردٍّ على جرائم الاحتلال"، كما اعتاد خطابنا الإعلامي؛ بقدر ما هي صيرورة طبيعية لأكثر من مئة سنة من الكفاح الفلسطيني المتصل. قوانين الكرامة الإنسانية والتاريخ وما بذلته ستة أجيال من تضحيات جمّة، كل ذلك لا يسمح بقبول المشروع الاستعماري أو التعايش معه.
ثمة "قيادات" آثرت الراحة أو ارتكست، لكن شعباً أُريد له أن يتحوّل إلى "سكّان" في معازل و"مشكلة إنسانية" وموضوعٍ للشفقة، ما زال يفاجئ نفسه -قبل الجميع- بقدرته على المقاومة رغم جميع تقنيات القمع وتقطيع الأوصال المسلطة على جسده المثخن، ورغم عملية إبادة سياسية تواطأت فيها قوى دولية عبر سبعة عقود آثمة.
رغم كل شيء، ما زال هذا الشعب يحسن تعريف نفسه كشعب واحد على أرضه التاريخية، ويحسن تعريف عدوه كمشروع استعماري إحلالي، ويعرف أن لا حرية بلا تحرير. بائعة عنب جليلة، لم تعد تستطيع الوصول إلى "باب العمود"، يمكنها اختصار الأمر: هذه أرضنا وهؤلاء سُرّاقها وعلينا أن نستعيدها.
العدوان ومرارة الخذلان من أمّة كبيرة ينتمي إليها وتنتمي إليه، لا تزيد هذا الشعب إلا حلاوة، بل هو يتوق إلى مدّ يده المتعالية على قيد الاحتلال، بعطاء الحرية، إلى أشقائه المكبّلة أيديهم بقيود الاستبداد والتبعية. أشقاؤه الذين يُسعد قولهم (بتعبير المتنبي) في كل حال، وإن لم تسعد حالُهم الآن.
كينونة الشعوب، مثل كينونة الإنسان، تكمن بينها وبين ضميرها وكيف ترى نفسها ودورها. والأرجح، أن كل محاولات جعل الإنسان الفلسطيني يقبل بصورة مشوَّهة عن نفسه وتاريخه، كان وسيكون مصيرها الفشل.
ما تكشف عنه كل هبّة شعبية هو الوجه الأرضي والإلهي الذي لم تزد الجراحُ إلا من بهائه. صحيح أن المشروع السياسي الفلسطيني في عرضة دائمة للإفساد، وأنه عوض عن أن يكون المعبّر عن الإرادة الجماعية يتحول إلى ثغرةٍ وحصان طروادة تختبئ الهزيمة في أحشائه.
صحيح أن اللحظة مريعة وقاتمة على المستوى السياسي، لكن أنستطيع إنكار طاقة الحياة الدافقة التي تشحن بها الأرضَ واللغة َحالةُ المقاومة؟ أنستطيع أن نحيا اليوم مثلما كنا نحيا بالأمس. أنستطيع ألا نفي بالديون الجديدة في أعناقنا لفتية اجترحوا بطولةً بعفوية التاريخ؟ أتستطيع هذه المدينة المعلَّقة على صليب الاحتلال ألا يكون دمهم بعضاً من ضوء الشفق على تلالها؟ هذا الدم الذي لن ينام ولن يهدأ. هذا الوفاء الصامت لأرض أضناها الكلام. هذا الدم الذي يجبرنا على الصمت والعمل.
الحُرُّ هو وحده المطالَبُ: "بس الوفا ع الحُر". والوفاء شأن بين الإنسان وضميره وبين الإنسان وهمّته، ومهما صَنَع يبقى مقصِّراً.
اقرأ أيضاً: في العاصفة