هارفرد سكوير

02 اغسطس 2015
طلاب في بوسطن(Getty)
+ الخط -
بين بوسطن وكامبريدج نهر تشارلز الذي يجري في صمت يراقص ثلاثاً وعشرين مدينة لينهي رحلته في المحيط الأطلسي. على جنباته كبرى جامعات العالم. هارفرد، جامعة بوسطن .معهد إم أي تي. وبين بوسطن وكامبرديج جسر تقرأ على أرضيته، وأنت تعبره مشيا على الأقدام عبارة كتبها عابر مجهول "منتصف الطريق إلى الجحيم". لا أعلم متى كتبت، هل قبل حادث الماراطون أم بعده.. ما دام أن الجسر قريب من كابلي.
ما إن تعبر الجسر قادما من بوسطن في اتجاه كامبريدج، حتى تجد على الجهة اليمنى معهد إم أي تي.. تقف عند عتبات المدخل الرئيسي فتدرك أن تاريخا بكامله يأوي خلف تلك الأعمدة الرخامية، التي تعبر عن الشموخ. جناح الهندسة المدنية، وجناح الطيران، ثم أقسام الموسيقى والفلسفة واللسانيات والطب والتكنولوجيا، ومتحف الفنون المعاصرة، ومختبرات البحث في علوم السرطان. لا أحد سيوقفك أو سيسألك عن سبب دخولك المبنى. لا أحد سيسألك عن بطاقة هويتك. ولا أحد سيغلق الباب في وجه الزائرين والباحثين أيام العطل أو الآحاد أو الليل..!
العقل لا ينام. والأضواء لا تنطفئ. وصور الذين مروا من مدرجات هذا المعهد الراسخ تؤثث الممرات.
قبل ثلاث سنوات قرأت في النيويورك تايمز أن المعهد ساهم، حتى ذلك التاريخ، بمائة اختراع عالمي ساهم في تغيير العالم!
حين تخرج من الباب الخلفي، من الجهة التي توصلك إلى كاندال سكوير تكتشف أن الفضاء تغير. ما كنا نقرأ عنه في النيويورك تايمز، قبل سبع سنوات قد تحقق. إنه "سيليكون فالي" آخر تأسس في أحضان هذا المعهد..! كل شيء تغير. الطرق والمباني، ووجه المدينة. لكن لا شيء تغير على امتداد شارع ماساف (الذي ينطق اختصارا لشارع ماساتشيوسيت). لا زالت المقاهي تكتظ بالطلبة والباحثين. كل العالم يحضر هنا. كل اللغات.
في محل السيليفايشون أرمي الذي صار كودويل، كنت أقضي مساءات السبت، في الشتاء، خلال العام الأول الذي استقررت فيه في بوسطن، وكنت أبحث عن الدفاتر والكتب التي نسي فيها أصحابها أوراقا أو تدوينات. من هذا المحل اقتنيت بربع دولار دفترا لطالب ياباني كان يدرس الموسيقى في إم أي تي، خلال عام 1986. يتحدث عن غرابة العالم هنا. معاناته. لقاؤه الأول مع أساتذته. نهر تشارلز. حنينه إلى أهله وطوكيو. حنينه حتى إلى لغته وهو يكتب يومياته بإنجليزية مثقلة بالتكلف والهوان. حينها تساءلت: "هل الحنين شعور إنساني؟. هل كل فرد يحس بالفزع والفراغ حين يرحل عن فضائه؟"...
في جامعة هارفرد يجلسون كي يراقبوا أحوال العالم وهم يحلمون بعالم آخر!
كامبريدج مدينة الأحلام. مدينة الأهواء. مدينة من لا مدينة له. مدينة هاجرت من إنجلترا كي تكون حكاية كل شباب العالم. تعبر أزقتها الضيقة المؤدية إلى ماساف فتتخيّل نفسك في الأحياء القديمة للندن أو حارات عوالم جيمس جويس. مدينة هجرت الضفة الأخرى من الأطلسي كي تسكن ضفاف نهر تشارلز.
كامبريدج. بين جسر هارفرد الذي يصلها ببوسطن، وساحة هارفرد سكوير، وبعد أن تعبر الشارع وتشرب قهوتك، وتنصت لهمس العاشقين، تنتهي بساحة هارفرد سكوير...

في ساحة هارفرد سكوير، في الجهة الخلفية من جامعة هارفرد، كان الروسي بيتر، عازف القيثارة، يجلس على كرسيه الواطئ وهو يعزف مقطوعتي المفضلة "لامبادا". تبادلنا التحية، بعد شهور من الغياب، ثم قال لي: "توفي عمر الشريف اليوم، بطل الدكتور زيفاكو...! ...سأعزف مقطوعة لذكرى عمر وزيفاكو معا".

في هذا الفضاء كانت ويتني هوستون مشردة تأتي كل مساء، في الصيف، كي تغني لتجمع صدقات العابرين إلى أن التقطها رجل كأنه يد الله فغير حياتها..!
العالم ليس ما نعرفه، وإنما هو هذا اللامفكر فيه الذي يقودنا إلى حيث لم نكن نعلم أننا على موعد مع حياة أخرى. عثرة الوقت. حظ. قدر. سر الغيب والإله...



المساهمون