لسنين خلت، كان نتاج الكاتبة المصرية نورا أمين - المقيمة في ألمانيا - في الرواية والقصة القصيرة والكتابة المسرحية، باللغة العربية. إلا أنها نشرت مؤخرًا عملًا باللغة الإنكليزية تحت عنوان: "تهجير المؤنث"، تتناول فيه عدداً من الإشكاليات المجتمعية التي أطّرت منذ عقود ملامح شرقنا العربي، بدءاً من النظرة الدونية إلى عقل المرأة والجسد الأنثوي الذي يتم التحرّش الجنسي به علانية، وصولاً إلى الاغتصابات الجماعية التي شهدها ميدان التحرير بعد الثورة المصرية. رحلة تقطعها أمين وتحاول من خلالها الوصول إلى أسرار تسليع الجسد الأنثوي وتهجيره تماماً من ثقافتنا إن لزم الأمر، مرة باسم التقاليد والعادات، ومرات باسم الدين والسياسة والأمن العام.
بين الحيّز العام والسيرة
ونظرًا إلى عنوان الكتاب اللافت، الذي يختزن في طياته كثيرًا من الدلالات، سأل "ملحق الثقافة" الكاتبة عن تلك الدلالات وتشعباتها، فأجابت: "الكتاب يتناول وضعية الجسد الأنثوي في المجال العام في مصر، وعلاقة تلك الوضعية تاريخياً واجتماعياً بالنظام الأبوي، وسياسياً بمفهوم الدولة والنظام، بمفهوم الوطن والهوية. في هذا الكتاب حاولت تحليل ظواهر التحرش الجنسي في المجتمعات العربية، ومن أهمها مصر، وعلاقتها بتشكيل الذات المؤنثة وتأثيرها على ديناميكيات الاتصال بين الرجل والمرأة. كما حاولت المزج بين التحليل الثقافي والنسوي من جهة، وبين المنظور النفسي ومنظور الاتصال في المجال العام من جهة أخرى، مع الاستفادة من خبرتي كممثلة وراقصة وكاتبة مسرحية، للنظر في مفهوم الجسد كصورة ثقافية وفنية واجتماعية، وفي مادية الفعل الجسدي في الفضاء العام. وفي نهاية الكتاب حاولت أيضاً تحليل علاقة الجسد الأنثوي بثورة 25 يناير في مصر، وعلاقتها بميدان التحرير كفضاء ثورة وتحوّل وتوحّد للهوية، كذلك بوصف ميدان التحرير فضاءً للتعدي على الجسد الأنثوي، اعتماداً على وقائع حدثت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، وكيفية ربط ذلك بتحولات صورة الميدان وسيادية السلطة الذكورية من عدمها. وهناك فصل كامل في الكتاب عن الجسد الأنثوي الأجنبي في المجال العام في مصر وأوروبا".
وإذ بدا كتاب نورا أدنى إلى السيرة الذاتية، نظرًا إلى تطرقها لفترة الطفولة، وذكرياتها عن ميدان التحرير في القاهرة، وصولًا إلى ذاك التغيير الهائل الذي شابه، رفضت الكاتبة التشبيه بالسيرة الذاتية: "ليس سيرة ذاتية مطلقاً، لكنه أسلوبي الأدبي الذي يلقي بظلاله دوماً فيقودني إلى الربط بين حياتي وبين العمل الذي أقوم بكتابته. والحقيقه أنني عاجزة عن الكتابة من دون هذا الربط، كما أنني عاجزة عن تناول موضوعات لا تمسّني شخصياً. تظل صورة ميدان التحرير في أواخر السبعينيات وأنا أعبر جسر المشاة مع أمي هي الصورة المحورية لمصر التي أعرفها.
كانت أمي تمسك بيدي وكنت أنظر عبر جسدها الجميل وتنورتها القصيرة إلى الجانب الآخر، فأرى ميدان التحرير في الأسفل مزهرًا ومخضرّاً، وكنت أرفع رأسي الصغير إلى أعلى قليلاً فأرى السماء زرقاء وجميلة، كنت معلّقة في الهواء بين السماء والميدان، وكان الهواء الخفيف الحنون يداعب شعري في أوائل الصيف، فيما أمي تخطو بهمّة نحو مستقبلها المهني والأكاديمي، أنظر إلى الميدان وإلى السماء وإلى أمي فأرى مصر التي أحبها وأتمناها".
التحرّش رائج شرقًا وغربًا؟
لا يمكن تجاهل الحادث الأخير في مدينة كولونيا الألمانية، أي أحداث التحرش الجماعية التي تمت في ليلة رأس السنة، وكل ما رافقها وتلاها في الإعلام الغربي، من "رسم" صورة بعينها للمتحرشين، الذين رُبطوا بمشكلة اللاجئين من خلال التركيز على جنسياتهم العربية.
لذا كان السؤال عن وجود مقارنة ممكنة بين أحداث التحرش مصريًا (في ميدان التحرير) وأوروبيًا في مدينة كولونيا. فأجابت أمين لـ"ملحق الثقافة": "لا أعتقد أن هناك وجهاً للمقارنة بين الاغتصاب الجماعي في ميدان التحرير في نوفمبر 2012، والتحرش الجماعي الذي تم في مدينة كولونيا الألمانية ليلة رأس السنة. أحداث التحرير كانت كلها ذات صبغة سياسية، حتى وإن شارك فيها مواطنون عاديون غير مسيّسين، إلا أن وقوع الأمر برمّته في ميدان التحرير يجعل المغتصبين – سواء كانوا مأجورين أم من معتادي التحرش في الأماكن العامة وقد نظموا أنفسهم - ضالعين في انتهاك المعنى الوطني والسياسي للميدان وللثورة ولمصر الجديدة، التي أصبح ميدان التحرير أيقونتها. أما أحداث كولونيا فهي أقرب إلى تحرشات الحالات الاحتفالية، تلك التي لا تحوي محملاً سياسياً، ويمكن النظر إليها من منظور الخطاب السياسي الأيديولوجي، إنها أقرب إلى التحرش الجماعي في مصر خلال الأعياد، مثلها مثل الحوادث المتكررة التي شهدناها قبيل الثورة في عيد الأضحى أو عيد الفطر، من تجمعات لقاصرين وشباب من الذكور في الأماكن العامة المزدحمة – شوارع القاهرة الرئيسية والحدائق العامة والميادين الكبرى مثالاً - حيث يصنعون دائرة حول فتاة ما أو مجموعة من الفتيات ويتحرشون جماعياً بهن. في كولونيا توافر شرط الاحتفال الذي عادة ما تتساقط معه كثير من الأعراف الاجتماعية وتكون الروح الجماعية والجنسية متّقدة، فنحن في ليلة رأس السنة وفي المكان المحوري من وسط المدينة، والحالة العامة مسترخية ومنفتحة. إنها الحالة نفسها التي يحدث فيها التحرش الجنسي - بل والاغتصاب - في أوروبا وأميركا، أثناء الكرنفالات والاحتفالات الصاخبة أو الحفلات المنزلية أو في الحانات أثناء عطلة نهاية الأسبوع أو ما شابه. الاحتفال إذن عادة ما يكون مقترناً بهذه النوعية من التعديات، بل إنه من المذهل أن النساء أحياناً ما يتورطن في التواطؤ بالقبول أو بالسكوت بعد حدوث التعدي. الجدير بالذكر أن هذا النوع من التحرش قد قل كثيراً في مصر، ربما بسبب تصاعده إلى مستوى الجريمة الوطنية، أو بسبب ناقوس الخطر الذي دقته اغتصابات التحرير، والذي دفعت ثمنه نساء من أجسادهن وحياتهن لإحداث تلك اليقظة المتأخرة، ونتج عنها استحداث شرطة للتحرش الجنسي وتواجد أمني مكثّف أثناء الاحتفالات العامة، للحيلولة دون حدوث التحرش الجماعي. ومع ذلك ينبغي أن أضيف أن هناك بعداً آخر لتحرشات كولونيا، وهو ذلك البعد الخاص بأن مجموعات الرجال كانت من "أصول عربية"، أي أن الانتهاكات من جانبهم ربما كانت أداة للاستحواذ على "الأرض" و"إثبات الوجود" عبر أجساد النساء الألمانيات التي تستخدم في تلك الحالة كمعبر لنفي صفة "الغريب" أو "الضيف" واكتساب صفة "المالك". أما أن ذلك يحدث بشكل جماعي فهو المستجد، ذلك أن المجتمع الألماني، مثله مثل جميع المجتمعات الأبوية في العالم، يعاني أيضاً من التحرش الجنسي بل والاغتصاب حتى في الإطار العائلي، لكنه مسكوت عنه بضراوة. ويمكننا أن ندع مجالاً لاعتبار تلك الانتهاكات منظمة من أجل إشعال الكراهية ضد السياسات الداعمة للمهاجرين السوريين، وإيقاظ وتبرير الدعاوى العنصرية، إلا أننا أيضاً يمكن أن نراها – ولو جزئياً - غير مدبّرة ومعتمّدة على الوثاق الذكوري الذي يحدث بين مجموعات الرجال في الاحتفالات المشابهة، كما في مباريات كرة القدم، بل وفي الموالد الدينية لدينا في مصر".
يبقى القول إن الكتاب سيصدر في طبعة عربية في مصر في شهر إبريل / نيسان المقبل. ولعله يساهم في التخفيف من الأفكار المسبقة والرائجة تجاه المرأة وجسدها، إلا أن الأجواء السائدة مؤخرًا بزيادة القمع والرقابة على الكتّاب، كما حصل مع الكاتب أحمد ناجي مثلًا مؤخرًا، لا يشير إلى أي أفق أو أمل.