نهاد قلعي الغائب الحاضر ..نتذكره

22 أكتوبر 2014
نهاد قلعي في مسرحية "غُربة" (العربي الجديد)
+ الخط -
ما من كلمة تختصر وصف مشوار الفنان الراحل، نهاد قلعي الفني، الذي صادف يوم الجمعة الفائت، 17 أكتوبر/تشرين الأوّل، ذكرى رحيله الواحدة والعشرين... أبلغ من عبارة "العبقري". وما من توصيف أكثر شمولية وتكاملاً لمعنى الدراما السورية ووظيفتها المثلى من قولنا: "تتبّعوا سيرة نهاد قلعي الفنية، وما كانت عليه، هكذا على الفنّ أن يكون".
الجزم بما سبق يأتي مدفوعاً بأسئلة عن الفنّ وماهيته ودوره الجمالي والفكري وقدرته على الالتصاق بالواقع الإنساني والاستجابة لمتطلباته. وهي أسئلة نجد أجوبتها البليغة في تجربة الراحل، نهاد قلعي، الفنية. منها ما بدا ظاهراً للعيان، ومنها ما يحتاج إلى نبش البنية العميقة لنصوصه، وقراءة ما بين السطور فيها لنكتشفها.
فاختيار عبارة "حارة كلّ من إيدو إلو"، اسماً للحارة التي تضمّ مجتمع مسلسل "صحّ النوم"، بدت تعبيراً مبكّراً في الوعي، عن حالة الخلاص الفردي التي بدت سمة المجتمعات العربية حين تتعرّض لانتكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية. ومن ينسى عبارته التي لطالما أضحكتنا، في المسلسل ذاته: "إذا أردنا أن نعرف ما في إيطاليا يجب أن نعرف ما في البرازيل". فقد بدت منهج التحليل الوحيد لواقع عبثيّ عربي، لا منطق يحكمه.
وفي الجزء الثاني من "صحّ النوم" سيتخلّى غوار الطوشة عن مقالبه وشيطنته، ليتحوّل إلى رجل طيب وصالح، بل وإلى مصلح اجتماعي، إلا أنّ الناس من حوله لن يتقبّلوا شخصية غوّار الطيب، وسيمارسون عليه الفعل الذي تخلّى عنه، فيجبرونه، بذلك، على أن يعود إلى سابق عهده.
العبارتان اللتان أضحيتا مَثَلاً، ويمكن لأيّ منّا، في عملية بحث بسيطة، أن يدرك تعدّد استخدامهما في معرض تناول قضايا سياسية واجتماعية وفكرية وإنسانية. وحادثة رفض المجتمع توبة غوار كشفت على نحو ما عمق بنية نصّ نهاد قلعي الحقيقي، الذي يأتي ليكشف ظواهر مجتمعية خطيرة ويحذّر من تبعاتها، بلغة بسيطة ودقيقة في آن معاً.
ولعلّنا لا نجافي الحقيقة بالقول، إنّ هذا العمل، الذي جاء بلبوس كوميدي، يكاد يبدو ساذجاً (قبله قدّم نهاد مع دريد لحام "سهرة دمشق" بالروح ذاتها)، لكنّه حمل في متنه مفاتيح قراءة النفس البشرية وتشريحاً عميقاً لواقع مجتمعنا العربي، يكاد في بعض منه أن يكون أعمق بكثير ممّا طُرِحَ في أعمال أخرى لهما مثل "غربة" و"ضيعة تشرين". من تلك الأعمال التي أعلنت صراحة موقفها السياسي والاجتماعي الناقد لواقع المجتمعات العربية.
إلا أن "المعرفي" و"التنويري" و"حسم جدلية العلاقة بين الفنّ والمجتمع والسياسة" بدت في أعمال نهاد قلعي أكثر وضوحاً، خصوصاً في تجربته المسرحية مع دريد لحام ، التي تعود إلى ما قبل مسرحيتي "ضيعة تشرين" و"غربة". إذ قدّم الاثنان مسرحية "مساعد المختار". وهي اسكتش غنائي مسرحي، ذات طابع سياسي انتقادي، من تأليف الفنان نهاد قلعي. إضافة إلى شراكتهما مع الفنان عمر حجّو في "مسرح الشوك"، وعملهما مع الملحّن فيلمون وهبة أواخر الستينيّات، في بطولته مسرحية "قضية وحرامية"، من تأليف الشاعر جورج جرداق.
المؤكّد أن نهاد قلعي، وهو الابن الشرعي للمسرح وعلى خشبته قدّم روائع الفنّ المسرحي العالمي، عرف أنّ هذا الأخير وتحوّلاته، من الخشبة إلى شاشة التلفزيون، لا بدّ أن يقترن خطابه الجمالي والفني بخطاب فكري لا ينفصل عن طبيعة المجتمع وهمومه وقضاياه. وكلا الخطابين يحتاجان إلى أن يُكتَبَا بمزيج من الفكر والعاطفة.
ينقل الناقد، بشّار إبراهيم، في كتابه "دريد ونهاد" عن الراحل نهاد قلعي، في معرض حديثه عن "سهرة دمشق" التي كتبها مع دريد، قوله: "كنّا نهدف إلى المزيد من الإضحاك، وإلى تحقيق تمثيل كراكتر ينتقد المجتمع. ولم يكن اجتماعنا على أساس التركيب الفيزيولوجي لكلٍّ منا، بل على أساس التقارب الفكري".
في منهج هذه الشراكة بين الفني والفكري يكمن السرّ في الفهم البسيط (بعيداً عن الفذلكات) لدور الدراما التلفزيونية في تحقيق شرط المتعة أولاً، عبر شخصيات لها ظلالها الحقيقة في الشارع، وتطلّ على واقع الناس اليومي وقضاياهم. ولعلّ التوصيف الأدقّ لطبيعة أعمال هذه الشراكة الدرامية هي "الدراما العضوية". وهذا التعبير الأخير هو محاكاة لتعبير فنيّ ثانٍ هو: "العمارة العضوية". وهذا مصطلح يُطلَق على نمط معماري اقترحه المعماري العالمي الأميركي فرانك لويد رايت، وعرّفه في كتابه عنه بأنّه، أي "العمارة العضوية"، "فكرة مثالية وتعاليم يجب أن تتَّبع إذا أردنا فهم الحياة ككلّ ولخدمة مغزى الحياة". ومن مبادئ فرانك لويد رايت المعمارية وتنظيراته كانت الدعوة إلى المرونة في التصميم وقابلية المبنى للامتداد المستقبلي وتصميمه من الداخل إلى الخارج واتفاق المظهر الخارجي وتكوينه الداخلي مع الغرض الذي أنشئ من أجله، فضلاً عن إعجابه بالطبيعة واستخدامه موادّها على طبيعتها...
أليس هذا هو حال الأعمال الدرامية التي كتبها نهاد قلعي وقدّمها بالشراكة مع دريد لحام. ففي هذه "الدراما العضوية"، إن صحّ التعبير، تعلن شخصيات نهاد قلعي صراحة انتمائها العضوي إلى الشارع، على نحو لا يمكن للمرء إلا أن يحاول البحث عن "غوّار الطوشة" و"حسني البورظان" و"فطّوم حيص بيص" و"أبو عنتر" و"أبو رياح" وآخرين... بين الناس. هذا بوصفها شخصيات حقيقية، لا شخصيات افتراضية من إنتاج مخيلة الراحل نهاد قلعي. إذ حتّى أنّ الكاراكترات التي دخلت نصوصه جاهزة، ومنها شخصية "أبو فهمي" وشخصية "أم كامل"، يؤكّد الناقد بشّار إبراهيم في كتابه "دريد ونهاد"، أنّ نهاد "عمل على تطويرها وتقريبها من الناس".
ومع حرص نهاد قلعي على التقاط الحسّ الإنساني الشعبي البسيط لشخصياته، امتلك الرجل القدرة على تطويرها وبشكل اصطلح على تسميته بـ"القصدية في الكتابة"، أي كتابة دور معيّن لصالح ممثّل بعينه. وفي تلك المرونة تكاملت شخصياته وامتلكت أسباب خلودها، كما هو صاحبها، في ذاكرة الناس.
ويوماً بعد يوم تكشف لنا أعماله كم تبدي من فهم للحياة ومغزاها.
دلالات
المساهمون