نقاش مع معين الطاهر.. عن المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها

05 ابريل 2019
+ الخط -
ليست هذه المقالة رداً على الصديق معين الطاهر، في مقالته "كيف ستواجه غزة حربها المقبلة" (العربي الجديد، 1 إبريل/ نيسان 2019)، وإنما لنقاش أفكارٍ طرحها، بالنظر لأهميتها، مع تأكيد حاجة الفلسطينيين للحوار وتبادل الآراء، سيما مراجعة تجربتهم الوطنية ونقدها، بكياناتها السياسية وشعاراتها أو بديهياتها وبأشكال عملها وعلاقاتها ومناهجها النضالية، في ساحةٍ تفتقد منذ زمن للإطارات التشريعية ومراكز البحث ومنابر الحوار.
جدير بالذكر أن المقالة تتحدث عن قطاع غزة، ومساحته 1,3% من مساحة فلسطين، ويعيش فيه مليونا فلسطيني، في شريط ضيق (طوله 41 كم وعرضه 12.6 كم) وهو محاصر ومغلق منذ 12عاما، ويفتقد الموارد وفرص العمل، ونسبة الفقر والبطالة عالية جداً بين سكانه، علما أنه يعتمد على إسرائيل في موارده من المياه والكهرباء والمحروقات والمواد الطبية ومواد البناء والسلع الأساسية. وعلى ذلك، يفترض الحذر من تحميل فلسطينيي غزة، ووضعهم كذلك، عبء التحرير، أو دحر الاحتلال، أو مقاومة إسرائيل وحدهم، سيما أن المعطيات الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية غير مواتية، ولا تسمح باستثمار نضالاتهم وتضحياتهم وتحويلها إلى إنجازاتٍ سياسية ملموسة، ما يفيد بأن الأجدى التركيز على تعزيز صمودهم في أرضهم، وتمكينهم من بناء مؤسساتهم وتنمية قدراتهم، باعتبار أن للعملية النضالية في الظروف الفلسطينية بعدين متلازمين: مواجهة الاحتلال وبناء المجتمع الفلسطيني.
أيضاً، قد يجدر التذكير بأنه قتل إبان احتلال إسرائيل للقطاع (1967ـ 2005) 230
 إسرائيلياً في عمليات للمقاومة، بمعدل ستة إسرائيليين سنوياً، في 38 عاماً، أي أقل بكثير من عدد قتلى إسرائيل في الضفة الغربية، ما يفيد بأن إسرائيل تضرّرت في الضفة أكثر مما في غزة التي انسحبت منها، واكتفت بمحاصرتها، للتحرّر من عبء السيطرة على مليوني فلسطيني في منطقةٍ فقيرة، وتحويلها إلى مشكلة فلسطينية، بينما بقيت في الضفة لأهميتها لها، من النواحي الرمزية والدينية والسياسية والأمنية والاقتصادية والمائية، ما يفترض إدراك ذلك، مع التقدير لنضالات شعبنا وتضحياته في كل أماكن وجوده.
ثمة ثلاث مسائل طرحها معين، في مقالته، تستحق النقاش. الأولى، أن غزة تعرّضت "لثلاثة اجتياحات صهيونية.. فشلت في تحقيق أهدافها، وخرجت منها المقاومة منتصرة، لكنها خلفت دمارًا وحصارًا مستمراً". وأنها "تمكّنت، خلال العام الماضي من فرض معادلاتٍ جديدة.. مثل معادلة القصف بالقصف، ما أربك حكومة نتنياهو". .. أتمنى لو أن ذلك كله تحقّق فعلاً، لكن التجربة الطويلة والمريرة تذكّر بأحاديث مماثلة مؤلمة، فالأنظمة العربية روّجت انتصارها على إسرائيل لمجرد بقائها ("صمودها")، كما تذكّر بمقولة: "كنت الصمود في بيروت"، فيما منظمة التحرير بمؤسساتها ومقاتليها تخرج من لبنان، نتيجة الاجتياح الإسرائيلي (1982)، بحيث طويت مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني في الخارج تماماً. والفكرة أننا نتحدّث عن تجربة عمرها أكثر من نصف قرن، وأن تجربة العمل المسلح، وحتى حرب الصواريخ لم تبدأ اليوم.
وبشكل أكثر تحديداً، في تجربة المقاومة في لبنان (والصديق معين كان في موقع قيادي في التجربة العسكرية) كان عشرات ألوف المقاتلين الفلسطينيين، وإمدادات سلاح، وقوات مدفعية، وظهير بحجم الاتحاد السوفييتي، وحينها خاضت القوات العسكرية الفلسطينية مواجهات كبيرة وحامية ضد اجتياحات وهجمات إسرائيلية في جنوبي لبنان. وضمن ذلك شنّت القوات الفلسطينية حربا بالمدفعية، ضد المستوطنات شمالي فلسطين، على امتداد 14 يوما، في يوليو/ تموز 1981، وحينها تدخلت الأمم المتحدة، بعقد اتفاق تهدئة متبادلة بين الطرفين، حتى أن محمود عباس (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وقتها، والرئيس الفلسطيني حاليا) صدر له كتيب عنوانه "استثمار الفوز"، تحدث فيه عن ما حصل باعتباره انتصارا، كما يجري اليوم الحديث عن "توازن قصف" أو "توازن رعب" أو توازن ردع. في المقابل، مررت إسرائيل وقتها الوضع المذكور للتحضير لاجتياح 1982، واقتلاع المقاومة الفلسطينية من لبنان، كما شهدنا.
وفي مقالة معين حديثٌ، بدا عابرا أو مختصراً، عن الدمار الذي لحق غزة نتيجة الحروب الإسرائيلية، بيد أن ذلك يبين أن للمسألة وجها آخر، يفترض أخذه في الاعتبار، علما أن 
الفصائل، في تقديسها الكفاح المسلح، وتحريم نقاش خياراته وشكل إدارته، استهانت تماما بفكرة الموازنة (ولو النسبية) بين الكلفة والمردود أو بين التضحيات والإنجازات، معتمدة على روح التضحية لدى الفلسطينيين، وإيمانهم بحقهم وبعدالة قضيتهم، من دون الالتفات إلى الكارثة التي لحقت بفلسطينيي لبنان، مثلاً، ولا الكارثة الحاصلة في غزة، مع مئات المعوقين، وألوف الشهداء، وعشرات ألوف الجرحى، في الحروب الوحشية التي شنتها إسرائيل، وضمن ذلك استشهاد حوالي أربعمائة فلسطيني ردا على اختطاف جندي إسرائيلي واحد هو جلعاد شاليت (2006)، ناهيك عن الكلفة الباهظة للحصار والإغلاق ووضع مليوني فلسطيني في سجن كبير، فهل ثمّة توازن هنا؟ ومن المسؤول عن خياراتٍ كهذه؟ أو هل تلك هي الخيارات المتاحة فقط؟
الفكرة الثانية التي تحتاج النقاش تتعلق بالمبالغة في القدرات العسكرية للمقاومة، ومن دون الانتباه إلى طبيعة الاستراتيجية الإسرائيلية المقابلة، إذ يكتب معين أن المقاومة "تمكّنت من تطوير قدرتها الصاروخية.. وبناء شبكة أنفاق كبيرة، في وقتٍ تراجعت قدرات سلاح البر الصهيوني على التقدم.. عام 2014.. لم تتمكّن القوات الصهيونية من إحراز أي تقدم ملموس على الأرض، على الرغم من نجاحها في تدمير أجزاء واسعة من القطاع، كما تمكّنت المقاومة من إنهاء استراتيجية الحرب الخاطفة.. ومن إرباك جبهته الداخلية.. وفي النتيجة، اضطر إلى وقف إطلاق النار، والتراجع عن أبواب غزة..".
هنا أود التذكير بالانتفاضة الثانية (2000ـ 2004)، التي طبعت بالعمليات المسلحة، سيما التفجيرية، والتي تعد ذروة المواجهات المسلحة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، إذ نجم عنها قتل حوالي 1060 إسرائيليا (عسكريين ومدنيين)، منهم 452 إسرائيلياً في العام 2002 وحده، وضمنهم 130 في شهر مارس/ آذار وحده من ذلك العام، لكن بعدها شنت إسرائيل حربين مدمرتين على شعبنا في الضفة وغزة، وأعادت احتلال الضفة وقطعت أوصالها بالنقاط الاستيطانية وبالحواجز وبالجدار الفاصل، ومنعت الفلسطينيين من دخول القدس (في عمر معين)، وأغلقت بيت الشرق. وفي المحصلة، بدلاً من أن تستنزف المقاومة إسرائيل استنزفت هي الفلسطينيين، ففي عام 2003 قتل 208 إسرائيليين، وفي 2004 قتل 117 منهم، وفي 2005 قتل 56 وفي 2006 قتل 30 وفي 2007 قتل 13.
وفي الحديث عن تراجع قدرات إسرائيل على الردع وكسب المعارك البرية يفترض، أولاً، الأخذ في الاعتبار أن ذلك يدخل في الاستراتيجية العسكرية والسياسية لإسرائيل التي تفضل استخدام سلاح الطيران بالنظر لقدرته التدميرية الهائلة، ولتجنب الخسائر البشرية في حربٍ برية، علما أن هذا جدل إسرائيلي أساساً. ثانياً، ما الذي يضير إسرائيل من بقاء قوات عسكرية لهذه الجهة أو تلك، في أي منطقة، طالما أن تلك القوات أو تلك المقاومة لا تشتغل ضدها، وطالما أنها غارقة في نزاعاتها الداخلية، وفي الصراعات على السلطة؟ وفي الواقع، تستثمر إسرائيل في الانقسام الفلسطيني، وعبر تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة في غزة وفي الضفة، وبوضع هذه السلطة هنا وهناك في مواجهة شعبها، إلى درجةٍ يمكن القول معها إن الفلسطينيين في الضفة وغزة كانوا إبّان الاحتلال أكثر تحرّرا وقوة ووحدة في مواجهتهم إسرائيل منهم بعد قيام السلطة.
تأسيسا على ما تقدم، يفترض هنا ملاحظة أن إسرائيل لا تشتغل وفقا لعقليتنا، وإنما وفقا لعقليتها هي، وضمن ذلك استيعابها أشكال الكفاح الفلسطيني، وتفكيكه، وتحويله إلى عبء على الفلسطينيين، سيما في ظروف تفكك الحركة الوطنية الفلسطينية، وضياع إجماعاتها الوطنية. ولكن فوق ذلك، يقرّ الكاتب بأن ثمة سببا آخر وراء السلوك الإسرائيلي، يتمثل بسعي نتنياهو لتجنب مواجهة قبل معركته الانتخابية، كما يتحدّث عن أن ما يجري ليس "سوى هدنة مؤقتة تنهي الجولة الحالية من التصعيد"، وأن احتمالات الحرب اليوم أقوى من أي وقت مضى، وإذا ما أُجلت أسابيع أو أشهرا فذلك لاعتباراتٍ تكتيكيةٍ. والفكرة هنا أنه آن لنا أن ندرك أن إسرائيل تشتغل بطريقة أو بعقلية أخرى، لذا ربما لا تكرّر قصة إخراجها المقاومة من لبنان في غزة، بشن حرب جديدة عليها بعد الانتخابات، إذ يكفيها الاستثمار في فصل غزة عن الضفة، فهذا أنسب من حربٍ على غزة، في حال سارت الأمور باتجاه "تهدئة مقابل تهدئة"، لأن هذا يسحب ملف المقاومة، ويعزّز الانقسام بين الفلسطينيين، ويجوّف حركتهم الوطنية، ويضر بصدقية قضيتهم.
الفكرة الثالثة والأخيرة، هي نقاش خيارات حركة حماس، بعد أن وضعت في مختبر التطبيق 
12 عاما، فالمقالة بدا أنها تدعم تلك الخيارات بدعوى المقاومة، متجنبة تفحّص تلك الخيارات أو نقدها، لتبين صحتها، أو جدواها، أو كلفتها، أو تأثيرها على علاقاتها بشعبها، في غزة. وما إذا كانت تلك الخيارات ترتبط، أو تنبثق، من استراتيجية سياسية أو عسكرية واضحة حتى لدى أصحاب القرار، سيما أن "حماس" وصلت عملياً إلى حيث كانت وصلت "فتح" قبلها في الضفة، أي إلى مجرد سلطة على شعبها، إذ هي لم تنجح في بناء سلطة أفضل من التي لغريمتها في الضفة، كما لم تتمكّن من فرض برنامجها في المقاومة، بدليل جنوحها نحو "تهدئة مقابل تهدئة"، بحيث أضحى خيار العودة إلى وضع غزة ما قبل 2007 هو المبتغى عملياً، بغض النظر عن الشعارات. فهل كانت تلك النتيجة تتطلب التضحية بألوف الشهداء وعشرات ألوف الجرحى، وكل تلك المعاناة؟ وطبعا هذا سؤال للرأي العام ولحركة حماس، مع معرفتي أن لدى الكاتب ملاحظات على إدارة "حماس" غزة (في مقالته: "نحو حل معادلة المقاومة والسلطة في غزة، 19/3/ 2019"). والسؤال هنا: لماذا لا تأخذ القيادات الفلسطينية رأي شعبها في أي من الخيارات الوطنية أو الكفاحية؟ أليس الشعب هو من يدفع ثمن تلك الخيارات؟ ثم لماذا تنصاع لرأي هذا النظام أو ذاك، أو للضغوط الإسرائيلية، بدلاً من الانصياع لرأي شعبها ومراعاة معاناته وتضحياته وقدراته؟
قد يطرح بعضهم السؤال عن البديل، وهو سؤال معجّز، في هذه الظروف والأوضاع، ولكن غياب تصورات بديلة لا يعني أن الطريق التي أودت إلى تدهور حركتنا الوطنية كانت صحيحة.
68278EE3-EBCA-42E2-A00F-437CE64F86A4
ماجد كيالي

كاتب فلسطيني