نظرة على "يوميات عدنان أبو عودة"
عدنان أبو عودة السياسي والدبلوماسي الأردني الذي شغل مناصب وزارية عدة، وعمل مستشارًا للملك حسين، ورئيسًا للديوان الملكي، ومندوبًا دائمًا للأردن لدى الأمم المتحدة، ومن ثمّ مستشارًا سياسيًا للملك عبد الله الثاني، صدر له كتاب "إشكاليات السلام في الشرق الأوسط: رؤية من الداخل"، وكتاب "الأردنيون والفلسطينيون والمملكة الهاشمية في عملية السلام"، وكتابه هذا الذي يؤرخ فيه للفترة الممتدة بين عامي 1970 و1988.
جاء الكتاب، المُصنَّف ضمن سلسلة مذكرات وشهادات، في ستة عشر فصلًا، يسبقها حوار مع صاحب اليوميات، قدّم تعريفًا به؛ نشأته، دراسته، المناصب التي شغلها، توجهاته الفكرية وانتماءاته السياسية. كما تناول ما لم تتطرق إليه صفحات الكتاب من موضوعات جرى التجاوز عنها، أو ربما دوّنت وفُقدت مع مرور الأعوام؛ فأوراق أبو عودة، كما يشير الطاهر في مقدمته، لم تكن معدّة للنشر ولم تُكتب لتلك الغاية، إنّما هي جملة من الملاحظات والأفكار الخاصة بصاحبها، وخلاصة لما شهده وعايشه من حوادث.
ولعلّ أبرز ما يتناوله الحوار الذي يتصدر الكتاب بعد مقدمته، معركة الكرامة عام 1968، والدور الذي أدّاه فيها كل من الجيش العربي الأردني والفدائيين الفلسطينيين، ثمّ حوادث أيلول/سبتمبر الدامية عام 1970 التي وقعت بين الطرفين. مرورًا بعلاقته الشخصية، أي صاحب اليوميات، بالمقاومة والتي بلغ توترها حدّ تعرضه لمحاولة اختطاف ومحاولتيّ اغتيال. الأمر الذي يضع القارئ أمام سؤال حتمي عن أهمية الدور الذي أدّاه أبو عودة في مجمل ما عايشه الأردن من حوادث، خاصة في تلك المرحلة التاريخية الحرجة، ويضع اليوميات نفسها أمام محاكمة حول مدى شموليتها في ما تقدّمه عن العلاقات الأردنية الفلسطينية بتقلباتها المستمرة.
يقتصر الفصل الأول من اليوميات على المرسوم الملكي القاضي بتأليف الحكومة العسكرية عام 1970، ومجموعة من التوجيهات الإعلامية التي أملاها وصفي التل على عدنان أبو عودة الذي كان يشغل منصب وزير الإعلام في ذلك الوقت. وتتبدّى أهمية تلك التوجيهات في كونها الوثيقة الوحيدة بين هذه الأوراق التي تتناول جانبًا يتعلّق بحوادث ما عُرف بـ"أيلول الأسود"، وتشير بوضوح إلى الدور الفاعل الذي كان يؤديه وصفي التل في حكومة لم يكن رسميًا جزءًا منها.
وتورد اليوميات مذكرة مفصلة لعدنان أبو عودة بخصوص الإفراج عن المعتقلين لأسباب تتعلّق بالمنظمات الفدائية، وهو القرار الذي اُتخذ فعلًا عام 1974 بعد أشهر من كتابة هذه المذكرة. يتلو ذلك تدوين لجملة من الحوادث التي عبرت على المنطقة، خاصة حرب أكتوبر؛ ما سبقها من مقدمات، وما ترتب عليها من نتائج، وما تبعها من مداولات محلية وإقليمية ودولية.
يوثق الكتاب العديد من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات المحملة بتفصيلات الوقائع التي شكّلت منعطفات تاريخية غيّرت مسار العلاقات الأردنية-الفلسطينية-العربية. وكان من أبرز تلك المحطات؛ مؤتمر الرباط ومقرراته عام 1974، ومحادثات الاتحاد الأردني السوري، وزيارة السادات لإسرائيل وخطبته في الكنيست عام 1977، والحرب العراقية الإيرانية منذ اشتعالها عام 1980. كما أنّه ينقل صورة لشكل السياسة الداخلية المتبعة في الأردن، وآليات تأليف الحكومات واختيار السفراء والوزراء. إضافة إلى مجموعة من الخواطر التي دوّنها أبو عودة في سياق الحوادث، وانطباعاته حولها، والتي تعكس العقلية النقدية لصاحبها من جهة، وتنقل أفكاره ونظرته الخاصة حول سبل تحقيق التحوّل الاجتماعي المطلوب من جهة أخرى.
مع كثرة الحوادث التي يرصدها الكتاب، يستطيع القارئ لصفحاته أن يرسم تصورًا خاصًا لمسار بذور فكرة تبلورت في نهايتها على صورة حدث أو قرار، متتبعًا خط سير نموها وتفاعلها عامًا بعد عام. ولو التقطنا هنا، في هذه المساحة المحدودة، مسألة موقف الأردن من منظمة التحرير الفلسطينية، والعلاقة الشائكة التي جمعت بينهما، وتأثرها بعلاقة كل منهما بالأطراف الفاعلة على الساحة العربية، فهناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال. والقراءة التب نحن بصددها لمشهد تحولات العلاقة الأردنية الفلسطينية من خلال هذه اليوميات ليست سوى محاولة لفهم أسبابها التي قادت إليها في تلك الفترة، ومآلاتها التي بُني عليها ما بعدها.
تُظهر اليوميات، بطريقة جليّة، تغيّرات موقف النظام الأردني من منظمة التحرير الفلسطينية، فقد بدأ الخلاف بين الطرفين بالتشكّل مع ولادة المنظمة، حيث اعتبرها الأردن طرفًا جديدًا ينازعه تمثيل الفلسطينيين، وبلغت الأزمة ذروتها عام 1970 بوقوع الصدام المسلح بين الطرفين، ثمّ عاد الخلاف إلى مستوى الحرب الإعلامية وكَيْل الاتهامات، لتظهر بعدها فكرة "منظمة التحرير ممثّل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني" التي أقرّها مؤتمر الرباط عام 1974.
هنا، بدأ يطفو على السطح، وخاصة في أروقة المطبخ السياسي الأردني، اتجاهان نحو المنظمة وقرار تفرّدها في تمثيل الفلسطينيين؛ الأول يؤيد القرار ويرى فيه إزاحة لعبء القضية الفلسطينية عن كاهل الأردن، ويدعو إلى تسريع فك الارتباط عنها. والثاني يرى فيه انتزاعًا لحق الأردن في تمثيل الشعب الفلسطيني، ويدعو إلى دعم القرار من باب توريط المنظمة وتحميلها ما لا تقوى عليه، لدفعها إلى الرجوع طواعية لمظلة الأردن وطلب استعادته دوره في قيادة القضية. وهي الفكرة التي أكّدها صاحب اليوميات في ملاحظاته المؤرخة بتاريخ 18/1/1977، حيث قال: "الأمر المثير للسخرية أنّ منظمة التحرير التي خرجت من مؤتمر الرباط في منتهى السعادة، على اعتبار أنّها صارت أكثر استقلالًا، أثبتت الحوادث أنّها أصبحت أكثر اعتمادًا على الأمة العربية. فقرار وحدانية التمثيل كان قرارًا سياسيًا وضع المنظمة في مجرى العمل السياسي العربي والدولي، وهو مجرى لم تتمكّن المنظمة من خوضه وحدها". كما ويوضح كاتب اليوميات كيف أثر هذا القرار في نمو اتجاهات إقليمية داخل بنية النظام الأردني.
وحتى ذلك الوقت ظلّ الأردن، يرفض التنسيق مع المنظمة أو عقد أي اتفاق معها يقود إلى ما سمّاه "فرضها" على الشعب الفلسطيني أو "تشييخها" عليه. إلّا أنّ الأمور سارت بعد ذلك باتجاه الاتفاق بين الطرفين، حيث أصبح الملك حسين يرى في المنظمة "هيكلًا سياسيًا يمكن استخدامه أو التعاون معه" في سياسته عربيًا ودوليًا. وتطوّر الأمر لاحقًا ليرتفع إلى مستوى وضع تصوّر لاتحاد كونفدرالي فلسطيني أردني عام 1983، قبل تدهور الأمور من جديد وصولًا إلى فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية.
قد لا تعكس هذه اليوميات بالضرورة موقف أبو عودة من جميع الحوادث المدونة فيها، فهو يؤدي هنا دور المسجّل والناقل لها، على الرغم من كونه جزءًا منها وطرفًا فاعلًا في بعضها، وهذا ما نلمحه حين نراه يعلق بملاحظاته الخاصة حتى على صيغ بعض خطابات الملك حسين، وحين يصف، في أكثر من موضع، خلال الفترة التي تبعت حوادث أيلول/سبتمبر 1970، شعوره بالغربة. لكنّ اللافت في الأمر أنّ أبو عودة الذي نراه يتحدث عن بروز الاتجاهات الإقليمية في الأردن منذ انتهاء حكومتَي وصفي التل وأحمد اللوزي، هو ذاته الذي اقترح قرار فك الارتباط وصاغه عام 1988.
ختامًا، لعلّ القيمة الأساسية لهذه اليوميات تكمن في رصدها للحدث زمن وقوعه، ومن موقع صناعة القرار، لتعيد روايته من زاوية مغايرة. كما أنّ بعض ما تناولته جاء مرفقًا بتحليلات سياسي خبر بنية النظام ومداخله، وصاحب كلمة مسموعة فيه، فهو يقدّم بذلك، اتفقنا معه أم اختلفنا، ما لن نجده إلّا عند نظرائه. وأخيرًا، فلعل هذه الخطوة التي اتخذها أبو عودة بنشر يومياته تفتح شهية من صمتوا زمنًا طويلًا لعرض ما في جعبتهم من كلام ممنوع على الجماهير العربية ومحجوب عنها.