13 نوفمبر 2024
نصيحة صدام الأخيرة
تذكّر القائد العام السابق لحلف شمال الأطلسي، ويسلي كلارك، نصيحة صدام حسين للأميركيين: "إذا تمكنتم من إطاحتي فسوف تفتحون عليكم أبواب جهنم". كلارك يلاحقه شعور بوخز الضمير لأن الأميركيين مارسوا "سياساتٍ غير فاضلة" بتعبير ميكافيللي: اغزوا العراق، وأسقطوا دولته، ولم يأخذوا بنصيحة صدام الأخيرة، وكان أن "سقط العراق في الفوضى، وبات الناس يتملكهم الخوف". أقرّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نفسه، لصحيفة نيويورك تايمز بأن رحيل صدام فتح أبواب الجحيم الطائفي في المنطقة. يكفي أن "كوابيس وأحلاماً مزعجة" تتملك أوباما، هذه الأيام، لمجرد خشيته من أن تتطور الأمور أكثر، إذا حصل انهيار لسد الموصل الذي قد يغيّر خارطة العراق. أفصح عن ذلك، بحسب مراسل لصحيفة الشرق الأوسط، في مكالمةٍ هاتفيةٍ مع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي.
سمعنا مثل هذا الكلام من عراقيين وعرب كثيرين، سنة وشيعة وأكرادا ومسيحيين وآخرين، مسؤولين رسميين، وناشطين حزبيين، ومواطنين عاديين، سمعناه أيضا من خصومٍ سياسيين لصدام، وحتى من أناسٍ تعرّضوا لاضطهادٍ أو تنكيل زمن العهد السابق. جديد ما سمعناه كان ممن باركوا عملية (تحرير) العراق من صدام، وممن حكموا العراق بعد (التحرير). وبدا لافتاً اعتراف إياد علاوي بأن العراقيين باتوا يترحمون على العهد السابق، وإقرار زعيم مليشيا بدر، كاظم العامري، بأنه كان سيقاتل مع صدام، لو عرف أن بديله سيكون داعش، وكلاهما خصم عنيد لصدام.
السياسة تعيش الوقائع، وإن كانت الأحلام والأوهام تغذيها، وتتجدد على الدوام. يقول إينشتاين "الأحلام هي البندول بين نظامي الطغيان والفوضى". وقد اختبرنا، في تجاربنا السياسية العربية، كليهما، وما عادت لنا مقدرة حتى على الحلم، كنا نتلمس الطريق نحو تغييرٍ يبقي العراق حيّاً، لكن رحيل صدام، بفعل الغزاة، أسقطنا في هاويةٍ لم يعد الخروج منها سهلاً. عضضنا على أصابعنا، لكن العضّ على الأصابع لم يعد مفيداً. قطعاً، لسنا هنا في وارد تبرئة صدام من ارتكاب أخطاء وخطايا ساهمت بالدفع إلى هذا المآل، أقلها عملية "غزو الكويت" التي شرذمت العالم العربي، وأسقطت معيار التضامن بين أبنائه، ووجهت ضربةً قاصمةً للمشروع القومي، ودفعت القضية الفلسطينية إلى الخلف. لكن، في زمن صدام كان هناك عراق موحد وقوي وفاعل ومؤثر. وفي هذا الزمن الرديء، أسقطت الدولة، ونهبت ممتلكاتها، وأفلست خزائنها، واحتل داعش إحدى أكبر مدنها في ساعات، وأسس دولته، وأقام إداراتها في أيام.
نعم، كان صدام دكتاتوراً مستبداً، لكن الديمقراطية التي بشّرونا بها أوقعت أعداداً هائلة من الضحايا تجعل ضحايا الأنظمة السابقة صفراً على الشمال. المشكلة الأكبر أن رحيل صدام فتح أبواب جهنم على مصاريعها، وقاد انهيار العراق الماثل أمام عيوننا إلى انهيار شامل وكامل للعالم العربي الذي فقد قدرته على صياغة مواقف موحدة من هذه القضية أو تلك. ودعك عن صياغة هويةٍ وطنيةٍ موحًّدة (بفتح الحاء)، وموحِّدة (بكسره)، بعدما تآكلت هويتنا القومية، بفعل هذا الخضم المتناسل من صراعات الطوائف، والأعراق، والعشائر، وحتى المدن الصغيرة.
مراجعة نقدية من كل الأطراف لما حدث بعد السقوط قد تفيد في تجنب الأسوأ، وتفادي الأكثر مرارة، ومناقشة ما يدور في الهواء الطلق، وبنفس من لا يريد لهذا البلد أن يتفكّك، ويموت، تبدو مثل فرصةٍ أخيرةٍ لا نريد لها أن تهدر، كما أهدرت فرص أخرى قبلها، خصوصاً ونحن نشم رائحة موت البلاد في كل زاوية ومكان، بل منا من يريد أن يطلق الرصاصة الأخيرة (يسميها هو رصاصة الرحمة!) على الجسد المريض، وتراه يُصارع لوضع بصمته الشريرة على الخارطة الجديدة التي يجري الإعداد لها في أكثر من عاصمة، وهذا لم يعد سراً.
حينئذٍ، لن تغلق جهنم أبوابها كما يتصور بعضهم، بل ستشتد الحرائق، وتتعدد مصادر النيران لتلتهم ما بقي من أخضر ويابس. هذه ليست نبوءة متشائمة، لكنه المآل الأخير الذي قد نساهم بصمتنا في الوصول إليه.
سمعنا مثل هذا الكلام من عراقيين وعرب كثيرين، سنة وشيعة وأكرادا ومسيحيين وآخرين، مسؤولين رسميين، وناشطين حزبيين، ومواطنين عاديين، سمعناه أيضا من خصومٍ سياسيين لصدام، وحتى من أناسٍ تعرّضوا لاضطهادٍ أو تنكيل زمن العهد السابق. جديد ما سمعناه كان ممن باركوا عملية (تحرير) العراق من صدام، وممن حكموا العراق بعد (التحرير). وبدا لافتاً اعتراف إياد علاوي بأن العراقيين باتوا يترحمون على العهد السابق، وإقرار زعيم مليشيا بدر، كاظم العامري، بأنه كان سيقاتل مع صدام، لو عرف أن بديله سيكون داعش، وكلاهما خصم عنيد لصدام.
السياسة تعيش الوقائع، وإن كانت الأحلام والأوهام تغذيها، وتتجدد على الدوام. يقول إينشتاين "الأحلام هي البندول بين نظامي الطغيان والفوضى". وقد اختبرنا، في تجاربنا السياسية العربية، كليهما، وما عادت لنا مقدرة حتى على الحلم، كنا نتلمس الطريق نحو تغييرٍ يبقي العراق حيّاً، لكن رحيل صدام، بفعل الغزاة، أسقطنا في هاويةٍ لم يعد الخروج منها سهلاً. عضضنا على أصابعنا، لكن العضّ على الأصابع لم يعد مفيداً. قطعاً، لسنا هنا في وارد تبرئة صدام من ارتكاب أخطاء وخطايا ساهمت بالدفع إلى هذا المآل، أقلها عملية "غزو الكويت" التي شرذمت العالم العربي، وأسقطت معيار التضامن بين أبنائه، ووجهت ضربةً قاصمةً للمشروع القومي، ودفعت القضية الفلسطينية إلى الخلف. لكن، في زمن صدام كان هناك عراق موحد وقوي وفاعل ومؤثر. وفي هذا الزمن الرديء، أسقطت الدولة، ونهبت ممتلكاتها، وأفلست خزائنها، واحتل داعش إحدى أكبر مدنها في ساعات، وأسس دولته، وأقام إداراتها في أيام.
نعم، كان صدام دكتاتوراً مستبداً، لكن الديمقراطية التي بشّرونا بها أوقعت أعداداً هائلة من الضحايا تجعل ضحايا الأنظمة السابقة صفراً على الشمال. المشكلة الأكبر أن رحيل صدام فتح أبواب جهنم على مصاريعها، وقاد انهيار العراق الماثل أمام عيوننا إلى انهيار شامل وكامل للعالم العربي الذي فقد قدرته على صياغة مواقف موحدة من هذه القضية أو تلك. ودعك عن صياغة هويةٍ وطنيةٍ موحًّدة (بفتح الحاء)، وموحِّدة (بكسره)، بعدما تآكلت هويتنا القومية، بفعل هذا الخضم المتناسل من صراعات الطوائف، والأعراق، والعشائر، وحتى المدن الصغيرة.
مراجعة نقدية من كل الأطراف لما حدث بعد السقوط قد تفيد في تجنب الأسوأ، وتفادي الأكثر مرارة، ومناقشة ما يدور في الهواء الطلق، وبنفس من لا يريد لهذا البلد أن يتفكّك، ويموت، تبدو مثل فرصةٍ أخيرةٍ لا نريد لها أن تهدر، كما أهدرت فرص أخرى قبلها، خصوصاً ونحن نشم رائحة موت البلاد في كل زاوية ومكان، بل منا من يريد أن يطلق الرصاصة الأخيرة (يسميها هو رصاصة الرحمة!) على الجسد المريض، وتراه يُصارع لوضع بصمته الشريرة على الخارطة الجديدة التي يجري الإعداد لها في أكثر من عاصمة، وهذا لم يعد سراً.
حينئذٍ، لن تغلق جهنم أبوابها كما يتصور بعضهم، بل ستشتد الحرائق، وتتعدد مصادر النيران لتلتهم ما بقي من أخضر ويابس. هذه ليست نبوءة متشائمة، لكنه المآل الأخير الذي قد نساهم بصمتنا في الوصول إليه.