نصيحة إلى كاتب مبتدئ

01 مارس 2020
+ الخط -
يرى غوستاف فلوبير أن الكتابة على نار هادئة ضرورية للمبدع؛ فيقول "يجب أن نعمل ببطء، أن نترك للصحافيين الأسلوب السريع في العمل. إن الكتب ليست للأولاد، إنها كالأهرام تحتاج إلى رسم مدروس، وإلى كتل كبيرة توضع الواحدة على الأخرى، مع بذل الجهد والوقت والعرق".

ويصفه معاصره إميل زولا فيقول "حين يجلس غوستاف فلوبير إلى مكتبه أمام صفحة حررها لأول مرة، يضع رأسه بين يديه، ينظر إلى الصفحة طويلًا كما لو كان قد سحرها. كان يترك الريشة ولا يتكلم، ويظل مشغولًا حائرًا في البحث عن كلمة هاربة أو تركيب أفلت منه".

يواصل زولا "وإذا أراد تصحيح ما كتب، يقرأ بصوتٍ عالٍ، ويبدأ بتصويب الأخطاء الإملائية، ثم الأخطاء الجمالية؛ فإذا امتلأت الصفحة شطبًا وتصحيحًا، أعاد نسخها وقراءتها مرة أخرى، ليتركها مدة ثم يعود إليها، ولا يتردد في قراءة ما يكتبه على أصدقائه المقربين، ويسألهم آراءهم ويناقشهم فيها".


وفق رؤية أستاذنا يحيى حقي، تعد مسألة التعديل والحذف والإضافة بمثابة تغييرات الرسام على أعماله، إنها بمثابة طبقات كشفتها أشعة إكس في لوحات كبار الرسامين العالميين، والتغييرات التي أجراها بيتهوفن في نوتاته الموسيقية، ويربطها بالأعمال الأدبية فيقول: "وفي فن القول لدينا لحسن الحظ أيضًا بروفات المطبعة لبعض أعمال بلزاك، ثلاث أو أربع بروفات متلاحقة، يدخل بلزاك في البروفة الأولى إضافات كثيرة قد يزيد حجمها على حجم الصفحة. إنه يشطب أيضًا أسطرًا عديدة ويضع كلمة بدل كلمة، وفي البروفة التالية قد يشطب ما سبق أن أضافه، ويعيد ما شطبه ويرجع للكلمة التي أعجبته لأول وهلة ثم غضب عليها، وهكذا دواليك. العجب إن صبر عليه صاحب المطبعة ورضي بعذابه.

يضيف حقي "وما من كاتب إلا عرف هذا الشطب والإضافة وإحلال كلمة محل أخرى. ليكن في علمك أنني لا أتحدث عن الملهمين من الشعراء؛ فهولاء يزعمون أن القصيدة تليت عليهم بصوتٍ خفي في اليقظة أو المنام، كل فضلهم أنهم سجلوها على الورق، وإنما أتحدث عن كاتب كان ربيب إلهام هو أيضًا؛ فإن هذا الإلهام يحنو عليه من علٍ دون أن يبلغه، فلا بد للكاتب حينئذ أن يسمو إليه بجهده هو. إن لحظة العناق تتم في الوسط بين الاثنين، فمثل هذا الكاتب هو الذي يتعرض لمثل هذا الصراع الذي أشرت إليه".

قد أكتب -يتذكر حقي- الجملة الواحدة ثلاثين أو أربعين مرة، حتى أصل إلى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى، وكان فلوبير يبحث ويكتب من التاسعة مساءً إلى الثالثة صباحا كل يوم أثناء عمله على رواية مدام بوفاري، وقد تأخذ منه كتابة صفحة واحدة عدة أسابيع. حين قال ذلك لم أشأ أن أقاطعه لأقول إن الأستاذ صنع الله إبراهيم في رواية "نجمة أغسطس"، أعاد كتابة أحد فصولها 13 مرة ليصل إلى بغيته، وأن أرنست همنغواي كان يوطِّن نفسه على حذف 100 صفحة من كل عمل، ويقرأ العمل بتروٍ ليحذف هذه الصفحات دونما تحفظ أو تقديس لما سطّره قلمه.

إن عرف القدماء طائفة من الشعراء عُرفوا بـ "عبيد الشعر"، ودأبوا على تهذيب أشعارهم مثلما يعمد القارئ إلى تحبير صوته وتحسينه، فإن دنيا الأدب عرفت قديمًا وحديثًا "عبيد الكتابة"، ممن لا يركنون إلى الكتابة عفو الخاطر، ظهورهم نادر مقارنة بغيرهم، إذ يأخذون وقتًا في الإعداد والتحضير وترتيب أوراق أفكارهم، لا يجاملون أنفسهم ولا يضيرهم أن يتأخروا؛ فإذا خرجت كتاباتهم إلى القارئ كانت أقرب في تأنقها إلى العروس ليلة زفافها.

يحتاج الكاتب إلى تهذيب فِقراته وتجويد كتاباته، يتوسل إلى ذلك بمقص الأشجار ويؤدي مهمة "الجنايني"؛ لتتسق الفِقرات طولًا والأفكار عرضًا وبسطًا، ويراها القارئ في جمال حديقة سهر على رعايتها، وأجهدت النفس في العناية بها. ليس له أن يسرف في الزخارف اللفظية، ويطيل النفس في الحواشي والإضافات الفرعية، في حين يهمل صلب الموضوع ومادته الرئيسة، ولا يتعين عليه أن يكتب أسلوبًا جافًا جافيًا؛ فيخسر مشاعر القارئ وتعاطفه مع الفكرة المطروحة.

بإيجازٍ شديد، يجدر بالكاتب أن يوازن في مادته بين الإقناع والإمتاع، وألا يترك الحبل على غاربه لطرفٍ فيضيّع الآخر، وحبذا لو يضع القارئ في بؤرة اهتمامه، وعندها سيجد من القارئ الحقيقي اهتمامًا متبادلاً، ولا ينبني هذا الاهتمام على مصلحة شخصية، بل على فكرة تجمع الناس ولو أبعدتهم الجغرافيا.
دلالات