بلغة ذات نفَس سردي حيوي، وبتصوير استعاري، شيّدت الكاتبة المغربية نسيمة الراوي (1988) عالَمها التخييلي، في باكورتها الروائية "تياترو ثرفنطيس"، الصادرة مؤخراً عن "دار العين" في القاهرة، ونجحت بوساطتهما في أنْ تُورِّط قارئها في تجربةٍ استكشافية يقف، وهو يخوضها، على أنها تستثير فيه القلق والحيرة، وتُحرّضه على التحوّل، بمعنى تغيير رأيه وسلوكه.
تقوم الرواية على استعادات للبطلة أحلام وهي في بيتها، بعد أن غادرت المستشفى، وأوصدت الباب على تجربة غرامية متوترة مع مراد، كما تستعيد حيوات أخرى لشخصيات قريبة منها، كحكاية جدّها وكريم وآدم. لقد أغلقت أحلام على نفسها في غرفتها، ووقفت أمام زجاج نافذتها المبلّل بالمطر، تتأمّل انعكاس ملامح وجهها المشتت، وتراهن على كتابة رواية أي "حكاية كاملة في يوم واحد" مخافة نسيان التفاصيل، ومتسائلة إن كان محو الماضي أمراً ممكناً؟
الواقع أنّ الحكاية هي دائرة سردية تستهلُّها فقرةٌ بها افتتحت الكاتبة نصّها، هي "قطرات رذاذ واهنة [...] هل المحو مخيف إلى حد الألم؟"، وعليها أغلقت روايتها، لتُوهم "تياترو ثرفنطيس" قارئها ببساطة حكايتها وحبكتها ومحدودية عالمها، فيكون من حق هذا القارئ أن يرتاب في المسير الذي تتوخى الرواية أن تقوده عبره. لكن تتبع الحكايات وتفرّعها ينجمُ عنه تنوّع في الموضوع والرأي والموقف، وهو ينسجم وطبيعة الخطاب النسوي، الذي لا يخفى على القارئ الفطِن تشبّع النص به، بحكم أن الجبهات التي تناضل عليها المرأة متنوّعة.
يُفصح الخطابُ النسوي صراحةً عن نفسِه في الرواية وفي أكثر من موضِع، ليدين الذكورية وجِناياتها، ولِيحتجَّ كتابةً، لأن الأصل في الكتابة – وفق غدامير – هو الاحتجاج على تدنيس ما، والتدنيس العلَني في الرواية هو الخيانة التي اقترفها مراد.
لكنّ النّسوية تتعدّد تجلِّياتها في "تياترو ثرفنطيس"، ولعلّ أبرزها ما يتمثّل في الدفاع عن تجربة المرأة التي تريد الإسهام في تحوِّل الحياة السياسية، والتحوّل العميق في العلاقات الاجتماعية والثقافية، لأن النسوية في أساسها تستهدف تغيير العالم. هكذا ينبغي النظر إلى إيرادِ حكاية "الرَّفيق العربي" والد "أحلام" بصِفَتها احتجاجاً على ممارسات سياسية اقترنت بسنوات الرصاص التي قضى فيها أبوها داخل مُعتقَله؛ "مات جرّاء إضرابه عن الطعام، يطالب فيه بمحاكمة عادلة".
اللافت في الرواية عدم اقتصارها على طرح النسوية باعتبارها حركة سياسية فقط، وإنما بصفتها ظاهرة ثقافية، ولعل ذلك هو جوهر هذا العمل الروائي؛ فبغض النظر عمّا يعتمل فيه من قضايا نفسية واجتماعية، يحضر العنوان بثقله كخطاب مُواز دال.
"تياترو ثرفنطيس" أو مسرح ثربانتيس، افتتح في طنجة يوم 11 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1913. وقد احتضن أعمالاً فنيّةً متنوعة لكبار فناني العالَم، لكنه اليوم معلم يتداعى، وهو آيل للسقوط.