10 نوفمبر 2023
نزاع الصّحراء إشكالاً مغربياً مشرقياً
محمد الشرقاوي
باحث مغربي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، من أحدث مؤلفاته بالإنجليزية "ماهو التنوير: استمرارية أم قطيعة في أعقاب الانتفاضات العربية".
عندما تضيق الجغرافيا السياسية بجمود النّزاعات المزمنة، ويزداد عدم اليقين بفعل تعثّر دبلوماسية الأمم المتحدة، يصبح أيّ نزاع دولي عرضةً لتعقيداتٍ جديدة، توسّع نطاق خلافاته الأصلية، وتزيد في تعدّد الأطراف من حوله. هذا بعض ما ينطبق على نزاع الصحراء، الناشب بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو) منذ عام 1975، فبدلا من إحراز "التقدم نحو حلّ سياسي واقعي وعملي ودائم" كما دعا إليه مجلس الأمن في قراره رقم 2414 (2018)، امتدّ هذا النزاع القائم منذ 43 عامًا إلى تصعيد جديد غير متوقع على الجانب الآخر من العالم العربي. وتحوّل في الشهرين الماضيين من نزاع مغاربي تم احتواؤه، بعد نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (المينورسو) عام 1991، إلى موجة توترات سياسية متنامية نحو دول بعيدة مثل لبنان وإيران والسعودية والإمارات وجيبوتي.
سلّم الوزير المغربي للشؤون الخارجية، ناصر بوريطة، في الأول من مايو/ أيار الماضي، ما سمّي "الملفّ السري" إلى نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف الذي عبرّ عن شعوره "بالصدمة" في اجتماعهما في طهران. وكشف الملف أنّ "بعض كبار المسؤولين في حزب الله وجبهة البوليساريو التقوا مراراً في مخيمات اللاجئين الصحراويين في الجزائر من خلال وساطة دبلوماسي إيراني". الأمر الأكثر إثارة للقلق أنّ عناصر تابعة لحزب الله هرّبوا كميات أسلحة، شملت صواريخ مضادّة للطائرات، يمكن تركيبها في عرباتٍ في شاحنات إلى
"بوليساريو"، عبر سفارة إيران في الجزائر. وشدّد بوريطة على أن لدى بلاده "دليلا دامغا" على دور حزب الله، وأنه أطلع نظيرَه الإيراني على "التواريخ ومواقع الاجتماعات والأسماء المعنية". وأضاف أن حزب الله شرع في توفير التدريب والدّعم المالي لجبهة بوليساريو عام 2016. وحسب التبرير الرّسمي المغربي، لم يبق أمام الرّباط خيار آخر سوى "قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وإغلاق سفارتها في طهران". وأثارت هذه الوصلة اللبنانية الجديدة، و"تآمر" حزب الله على سيادة المغرب في مناطق الصحراء ذبذبات قوية نحو عواصم إقليمية وغربية.
بيد أن توقيت قرار المغرب قطع علاقاته مع طهران وإغلاق السفارة الإيرانية في الرباط "على الفور" في 1 مايو/ أيار 2018 أثار عدّة تساؤلات بشأن الدوافع الحقيقية والمسار المستقبلي لهذا القرار الذي جاء أياما قبل قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التحلّل من الاتفاق النووي، المعروف باسم "خطة العمل المشترك الشامل مع إيران وخمس دول غربية". وتزامن مع تنامي الانزعاج لدى معظم دول الخليج من استراتيجية إيران ونفوذها المتزايد في سورية والعراق ولبنان واليمن. وكان رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، قد قدّم، قبل يوم، عرضه الدرامي أمام الكاميرات بشأن وجود "الملفات السرية" الإيرانية المزعومة، كجزء من حملته لتحييد الجهود الأوروبية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ضمن مساعيهم لإقناع ترامب للخروج من الاتفاق النووي الإيراني.
شبكة الثأر السياسي
يجاري قرار المغرب قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وتيرة الارتفاعات والانخفاضات في علاقةٍ متقلبة الأطوار مع الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979، فقد قرّرت حكومة الخميني الاعتراف ب "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" عام 1980، في تحرك بدا انتقاميا ضد قرار الملك الراحل الحسن الثاني استضافة الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي في المنفى. وتزايد الموقف السياسي بين طهران والرباط تدهورا، عقب رفض الملك الحسن عدة طلبات بتسليم الشاه إلى إيران. وظلت الدبلوماسية المغربية الإيرانية على وتيرة مدّ وجزر متقلبين خلال العقود الأربعة الماضية، غير أن الجانبين استعادا علاقاتهما الدبلوماسية عام 2014 بعد قطيعة دامت خمس سنوات بعد الانفراج عام 2009، بعدما قرّرت الرباط تأييد البحرين وسط عاصفة سياسية أثارها آنذاك أحد مستشاري خامنئي، عندما صرّح إن إيران "تتمتع بالسيادة على البحرين".
منذ عام 2005، اتخذ الخطاب المعادي لإيران في المغرب أبعادا سياسية ودينية. وساورت المسؤولين المغاربة الشكوكُ والاحتراسُ من تأثير ما اعتبروه تسلل مدّ التشيّع إلى بلادهم، بظهور بضعة آلاف من الشيعة، خصوصا في طنجة. ويتردّد أن حوالي 300 شيعي مغربي محتجزون ضمن الحملة التي تقوم بها سلطات الرباط للردّ على "رغبة إيران في الهيمنة الإقليمية". ويزداد انزعاج الرباط أيضا بسبب تزايد أعداد الشيعة بين الجاليات المغربية في بلجيكا وفرنسا ودول أوروبية أخرى. ويلاحظ الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، سعيد لكحل، توفر "الديمقراطية الغربية مجالا أوسع للمنظمات الشيعية لممارسة أنشطتها الاستقطابية في أوساط الجاليات العربية والمسلمة، وضمنها الجالية المغربية التي اعتنقت عقائد المذهب الشيعي بأعداد لا تخفى ملاحظتها، ما اضطر كثيرا من الدعاة والسياسيين إلى دق ناقوس الخطر لأن أعضاء الجالية المغربية المتشيعين يتحوّلون إلى عناصر استقطاب، ونشر عقائدهم حين العودة إلى المغرب".
أمّا الثأر السياسي الآخر بين حزب الله والسلطات المغربية فهو ذو حلقة أضيق، وغير معروف إلى حد كبير. ويبدو أن حزب الله قرّر التقارب مع جبهة البوليساريو عقب اعتقال رجل الأعمال اللبناني، قاسم تاج الدين، في الدار البيضاء، خلال سفره من غينيا إلى بيروت في 16 مارس/ آذار 2017، بناء على أمر تسليم صادر عن السلطات الأميركية. كان اسم تاج الدين ضمن القائمة الخاصة التي أصدرتها وزارة المالية الأميركية بشأن دعم الإرهاب العالمي في مايو/ أيار 2009، باعتباره "مساهمًا ماليًا مهما في حزب الله". وقد حام حوله اشتباه في تحويله أموالا من شركاته، بما فيها "تاجو"، وهي مجموعة عقارية واستثمارية، إلى حزب الله. وهذا بعض ما يساعد في تفسير التّرابط بين العلاقة المزعومة بين حزب الله و"بوليساريو" من ناحية والتباعد السياسي بين المغرب وإيران من ناحية أخرى.
تفسيرات متباعدة
وصفت طهران تلويح المغرب بأن دبلوماسيا إيرانيا في الجزائر تعاون مع "بوليساريو" بأنه أمر "زائف". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، إنّ أحد أهم المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية لبلاده في علاقاتها مع الحكومات والدول الأخرى في العالم "كان وسيظل احترام سيادتها وأمنها بشكل كبير، فضلا عن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى." وفي بيروت، اعتبر حزب الله اتهام المغرب له بتقديم أسلحة لجبهة بوليساريو بأنه "لا أساس لها" ، وينطوي على "ضغوط" أجنبية مُورست على الرباط. وأعرب بيان حزب الله عن أسفه لأن "المغرب يلجأ إلى ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، لتوجيه هذه الاتهامات الباطلة". ويبدو أنّ البيان اتخذ موقفاً مزدوجاً في الدفاع عن حزب الله وإيران معا، في التشديد على أنه كان على وزارة الخارجية المغربية "أن تبحث عن حجةٍ أكثر إقناعاً لقطع علاقاتها مع إيران التي وقفت وما زالت إلى جانب القضية الفلسطينية، وتؤيدها بقوة، بدلاً من افتعال تلك الحجج".
في منطقة النزاع نفسه، شدّد امحمّد خدّاد، منسق جبهة بوليساريو مع بعثة "المينورسو" على أنه "لم تكن للجبهة علاقات عسكرية، ولم تحصل على أسلحة، أو أجرت اتصالاتٍ عسكرية مع إيران أو حزب الله". وتحدّى المغرب تقديم أي دليل، واتهم الرباط "بالجنون"، والسعي إلى "تخطي التزامها بالحوار"، في إشارة إلى قرار مجلس الأمن 2414 الذي دعا الطرفين إلى "استئناف المفاوضات تحت رعاية الأمين العام من دون شروط مسبقة وبحسن نية". غير أن حالة الجمود تستمر مع حوادث تصعيد متفرقة، وليس هناك جدول زمني مقرّر لعقد الجولة الخامسة المتوقعة من محادثات مانهاست بوساطة الأمم المتحدة. ورفضت وزارة الخارجية الجزائرية الرواية المغربية أن دبلوماسياً في السفارة الإيرانية في الجزائر أوصل كميات أسلحة إلى جبهة البوليساريو، وقالت إنه لا أساس لذلك من الصحة.
بيد أنّ سرعة المغرب وحسمه في إنهاء علاقاته الدبلوماسية مع إيران ينطويان على قناعةٍ بحدوث تنفيذٍ محكم التنفيذ لصفقةٍ محتملة بين حزب الله و"بوليساريو". ووفقًا لمصدر مطلع قريب من إستراتيجية القصر الملكي في الرباط، "قد يكون هناك عنصر استغلال للحظة السياسية، لكن يبدو من غير المحتمل أن تقوم الحكومة المغربية بخطوة من هذا القبيل"، إلا أنه شدد على أن "المخابرات المغربية لا تتلاعب بمسألة حساسة مثل هذه".
ربّ ضارّة نافعة؟
قد يكون المسلسل السياسي الجديد "للمؤامرة" بين إيران وحزب الله ضد المغرب بمثابة سيفٍ ذي حدين في التعامل مع صراع طويل الأمد في الصحراء المغربية، فالسجال الراهن بشأن دور إيران وحزب الله يضيف إلى الاضطراب الحالي وانعدام الثقة بين المغرب والجزائر والبوليساريو في تبني خطة الأمم المتحدة المتجددة للسعي إلى "حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين يقوم على حق تقرير المصير لشعب الصحراء". وبدلاً من تمديد ولاية "المينورسو" عاما على غرار الأعوام السبعة والعشرين الماضية، اختار مجلس الأمن هذه المرة التمديد ستة أشهر، حتى 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. ويأتي هذه التغيير في مدة صلاحية القوة الدولية ضمن سلسلة من تهم الاستفزاز المتبادلة بين الطرفين.
في أوائل أبريل/ نيسان، اشتكت الرباط من بعض "عمليات الاستفزاز المتكرّرة" التي قامت بها البوليساريو في الكركرات وبير لحلو والمحبي، والتي تمثل المنطقة العازلة، شرق الجدار الأمني الذي بناه المغرب. وتعهد رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني بأن بلاده لم ولن تسمح بتغيير المعطيات على أرض المنطقة العازلة خاصة ما يتعلق بتشييد بعض البنايات. وضمن رسالة موجهة إلى مجلس الأمن، ذكر سفير المغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، أن الرباط تعتبر أي محاولة لجبهة البوليساريو لتغيير الوضع على الأرض "حجة للحرب". وهدّد بأن بلاده ستردع "استفزازات" البوليساريو، وانها "لن تقف مكتوفة الأيدي بسبب تدهور الوضع على الأرض".
في الوقت نفسه، يبدو الشرخ الجديد في العلاقات المغربية الإيرانية مناسبةً لبعض الانتهازية الدبلوماسية لبعض الدول الحليفة للمغرب. وأعربت عواصم في الخليج، ومناطق أخرى، عن تأييدها قرار المغرب ضمن المعادلة الشاملة لمنطق الكسب والخسارة بين الخليج والمغرب العربي. وتموضعت عواصم خليجية ضمن صف "الحلفاء" في التحالف المناهض لإيران الذي يقوده الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووليا عهد السعودية والإمارات، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
ويبدو أن هناك توظيفا لرأس المال السياسي المتعمد في ترديد صدى ما يمكن اعتباره استراتيجية مضادة ناشئة للمساعدة في احتواء النفوذ الإيرانية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، عبرت المملكة العربية السعودية عن تضامنها مع "المملكة المغربية الشقيقة". وندّد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ضمن تغريدة "بما فعلته إيران بالمملكة المغربية من خلال وكلائها (حزب الله) الذين يدربون ما يسمى جبهة البوليساريو". وجدد أيضا تهمه ضد إيران "بزعزعة أمن الدول العربية والإسلامية من خلال إشعال الطائفية والتدخل في شؤونها الداخلية ودعم الإرهاب". وكانت هذه المعادلة المناهضة لإيران والمؤيدة للمغرب واضحة أيضا في رد الفعل الإماراتي. فقد ذكّر وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش بعلاقات بلاده المتينة مع المغرب. غير أنّ وزارة الخارجية القطرية اختارت التركيز أكثرعلى ضرورة الحفاظ على سيادة المغرب "ضد أي محاولات تهدف إلى تقويض وحدته"، مع الاحترام الواجب لمبادئ العلاقات الدولية، من دون إثارة دور إيران. وقالت الوزارة في بيان أصدرته في الدوحة "إن دولة قطر تشدد على أهمية احترام المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول، وفي مقدمتها احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وحل النزاعات من خلال الحوار والسلم وحسب الأساليب المعترف بها دوليا".
لِمَ القطيعة ولماذا الآن؟
ليس من الحكمة فصل أي قرار سياسي مهم، مثل تخلي المغرب فجأة عن علاقات التقارب مع إيران بعد مصالحةٍ دامت أربع سنوات، عن دينامياته الراهنة ومساره المستقبلي. ويمكن للمرء أن يجادل بفرضيتين واردتين، ضمن غايات الدبلوماسية المغربية:
أولاً، يمثل قرار المغرب القطيعة مع إيران حسابًا ثنائي الرّهان من القيادة المغربية في مقابل الأجندة الراهنة للبيت الأبيض والرباعي المعادي لقطر (السعودية والإمارات والبحرين، وإلى حدّ أقلّ مصر) في السعي إلى خنق إيران سياسيا واقتصاديا. وقد جادل مراقبون بأن "المغرب
لم يعزّز مصالحه الخاصة في قضية الصحراء فحسب، بل ورسّخ نفسه أيضا وضعه حليفا لدول مجلس التعاون والولايات المتحدة، وذلك كله مقابل تكلفة منخفضة إلى حد ما". والجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا يزال يحمل ضغينة ضد المغرب، بسبب تبرع الرباط بمبلغ 12 مليون دولار لمؤسسة كلينتون، بهدف دعم منافسته في انتخابات الرئاسة المرشحة هيلاري كلينتون.
وهناك أيضا عامل جون بولتون، المستشار الجديد لشؤون الأمن القومي الأميركي في البيت الأبيض، بعدما كان داعيا شرسا لحق تقرير المصير لسكان الصحراء، وأحد قياديي حملة الضغط التي مولتها الجزائر لصالح "بوليساريو" في واشنطن. لا يزال صعبا على الرباط أن تنجح في تلطيف الحواف القاسية لعلاقات أميركا ترامب مع حليفها على الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي. وفوق كل الحسابات الإستراتيجية، قد تكون معاداة إيران عملة رائجة الآن في واشنطن، وأيضا في الخليج. وكما ينصح القول المأثور، بحجرة واحدة، يمكن للرباط أن تقتل عصفورين في آن.
ثانياً، تميل الفرضية المضادة إلى ترجيح استراتيجية المغرب الأصلية إزاء الجزائر المجاورة التي تعتبرها المؤسسة السياسية المغربية العضلات والدماغ خلف واجهة جبهة بوليساريو. ولا يمكن أن يكون إلغاء الرباط العلاقات الدبلوماسية مع طهران أكثر من مجرد بيدق مواتٍ لتحريكه استراتيجيا عبر رقعة الشطرنج للمساعدة بهدف "كشف" الأعمال الخفية للقيادة الجزائرية في إيجاد نقاط جديدة لدعم بوليساريو هذه المرة في الشرق الأوسط. وبالنظر إلى الديناميات النفسية للصراع الطويل الأمد، انطوى قرار النافذة القصيرة التي تمتد ستة أشهر فقط قبل انتهاء ولاية "المينورسو" الحالية نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، على عنصر القلق في الرباط والتوجس من ضبابية موقف مجلس الأمن. ومن المرجح أن خبراء استراتيجيين في القصر الملكي في الرباط قرّروا استخدام بطاقة تهمة "التعاون" بين المثلث الجديد الذي يورّط حزب الله وطهران والجزائر، في تحول تكتيكي، على أمل الحصول على مزيد من التأييد من الولايات المتحدة وفرنسا وحلفاء الخليج، مثل السعوديين والإماراتيين، بعد شهرين من التوتر على طول الجدار الأمني العازل في الصحراء.
سلّم الوزير المغربي للشؤون الخارجية، ناصر بوريطة، في الأول من مايو/ أيار الماضي، ما سمّي "الملفّ السري" إلى نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف الذي عبرّ عن شعوره "بالصدمة" في اجتماعهما في طهران. وكشف الملف أنّ "بعض كبار المسؤولين في حزب الله وجبهة البوليساريو التقوا مراراً في مخيمات اللاجئين الصحراويين في الجزائر من خلال وساطة دبلوماسي إيراني". الأمر الأكثر إثارة للقلق أنّ عناصر تابعة لحزب الله هرّبوا كميات أسلحة، شملت صواريخ مضادّة للطائرات، يمكن تركيبها في عرباتٍ في شاحنات إلى
بيد أن توقيت قرار المغرب قطع علاقاته مع طهران وإغلاق السفارة الإيرانية في الرباط "على الفور" في 1 مايو/ أيار 2018 أثار عدّة تساؤلات بشأن الدوافع الحقيقية والمسار المستقبلي لهذا القرار الذي جاء أياما قبل قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التحلّل من الاتفاق النووي، المعروف باسم "خطة العمل المشترك الشامل مع إيران وخمس دول غربية". وتزامن مع تنامي الانزعاج لدى معظم دول الخليج من استراتيجية إيران ونفوذها المتزايد في سورية والعراق ولبنان واليمن. وكان رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، قد قدّم، قبل يوم، عرضه الدرامي أمام الكاميرات بشأن وجود "الملفات السرية" الإيرانية المزعومة، كجزء من حملته لتحييد الجهود الأوروبية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ضمن مساعيهم لإقناع ترامب للخروج من الاتفاق النووي الإيراني.
شبكة الثأر السياسي
يجاري قرار المغرب قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وتيرة الارتفاعات والانخفاضات في علاقةٍ متقلبة الأطوار مع الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979، فقد قرّرت حكومة الخميني الاعتراف ب "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" عام 1980، في تحرك بدا انتقاميا ضد قرار الملك الراحل الحسن الثاني استضافة الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي في المنفى. وتزايد الموقف السياسي بين طهران والرباط تدهورا، عقب رفض الملك الحسن عدة طلبات بتسليم الشاه إلى إيران. وظلت الدبلوماسية المغربية الإيرانية على وتيرة مدّ وجزر متقلبين خلال العقود الأربعة الماضية، غير أن الجانبين استعادا علاقاتهما الدبلوماسية عام 2014 بعد قطيعة دامت خمس سنوات بعد الانفراج عام 2009، بعدما قرّرت الرباط تأييد البحرين وسط عاصفة سياسية أثارها آنذاك أحد مستشاري خامنئي، عندما صرّح إن إيران "تتمتع بالسيادة على البحرين".
منذ عام 2005، اتخذ الخطاب المعادي لإيران في المغرب أبعادا سياسية ودينية. وساورت المسؤولين المغاربة الشكوكُ والاحتراسُ من تأثير ما اعتبروه تسلل مدّ التشيّع إلى بلادهم، بظهور بضعة آلاف من الشيعة، خصوصا في طنجة. ويتردّد أن حوالي 300 شيعي مغربي محتجزون ضمن الحملة التي تقوم بها سلطات الرباط للردّ على "رغبة إيران في الهيمنة الإقليمية". ويزداد انزعاج الرباط أيضا بسبب تزايد أعداد الشيعة بين الجاليات المغربية في بلجيكا وفرنسا ودول أوروبية أخرى. ويلاحظ الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، سعيد لكحل، توفر "الديمقراطية الغربية مجالا أوسع للمنظمات الشيعية لممارسة أنشطتها الاستقطابية في أوساط الجاليات العربية والمسلمة، وضمنها الجالية المغربية التي اعتنقت عقائد المذهب الشيعي بأعداد لا تخفى ملاحظتها، ما اضطر كثيرا من الدعاة والسياسيين إلى دق ناقوس الخطر لأن أعضاء الجالية المغربية المتشيعين يتحوّلون إلى عناصر استقطاب، ونشر عقائدهم حين العودة إلى المغرب".
أمّا الثأر السياسي الآخر بين حزب الله والسلطات المغربية فهو ذو حلقة أضيق، وغير معروف إلى حد كبير. ويبدو أن حزب الله قرّر التقارب مع جبهة البوليساريو عقب اعتقال رجل الأعمال اللبناني، قاسم تاج الدين، في الدار البيضاء، خلال سفره من غينيا إلى بيروت في 16 مارس/ آذار 2017، بناء على أمر تسليم صادر عن السلطات الأميركية. كان اسم تاج الدين ضمن القائمة الخاصة التي أصدرتها وزارة المالية الأميركية بشأن دعم الإرهاب العالمي في مايو/ أيار 2009، باعتباره "مساهمًا ماليًا مهما في حزب الله". وقد حام حوله اشتباه في تحويله أموالا من شركاته، بما فيها "تاجو"، وهي مجموعة عقارية واستثمارية، إلى حزب الله. وهذا بعض ما يساعد في تفسير التّرابط بين العلاقة المزعومة بين حزب الله و"بوليساريو" من ناحية والتباعد السياسي بين المغرب وإيران من ناحية أخرى.
تفسيرات متباعدة
وصفت طهران تلويح المغرب بأن دبلوماسيا إيرانيا في الجزائر تعاون مع "بوليساريو" بأنه أمر "زائف". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، إنّ أحد أهم المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية لبلاده في علاقاتها مع الحكومات والدول الأخرى في العالم "كان وسيظل احترام سيادتها وأمنها بشكل كبير، فضلا عن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى." وفي بيروت، اعتبر حزب الله اتهام المغرب له بتقديم أسلحة لجبهة بوليساريو بأنه "لا أساس لها" ، وينطوي على "ضغوط" أجنبية مُورست على الرباط. وأعرب بيان حزب الله عن أسفه لأن "المغرب يلجأ إلى ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، لتوجيه هذه الاتهامات الباطلة". ويبدو أنّ البيان اتخذ موقفاً مزدوجاً في الدفاع عن حزب الله وإيران معا، في التشديد على أنه كان على وزارة الخارجية المغربية "أن تبحث عن حجةٍ أكثر إقناعاً لقطع علاقاتها مع إيران التي وقفت وما زالت إلى جانب القضية الفلسطينية، وتؤيدها بقوة، بدلاً من افتعال تلك الحجج".
في منطقة النزاع نفسه، شدّد امحمّد خدّاد، منسق جبهة بوليساريو مع بعثة "المينورسو" على أنه "لم تكن للجبهة علاقات عسكرية، ولم تحصل على أسلحة، أو أجرت اتصالاتٍ عسكرية مع إيران أو حزب الله". وتحدّى المغرب تقديم أي دليل، واتهم الرباط "بالجنون"، والسعي إلى "تخطي التزامها بالحوار"، في إشارة إلى قرار مجلس الأمن 2414 الذي دعا الطرفين إلى "استئناف المفاوضات تحت رعاية الأمين العام من دون شروط مسبقة وبحسن نية". غير أن حالة الجمود تستمر مع حوادث تصعيد متفرقة، وليس هناك جدول زمني مقرّر لعقد الجولة الخامسة المتوقعة من محادثات مانهاست بوساطة الأمم المتحدة. ورفضت وزارة الخارجية الجزائرية الرواية المغربية أن دبلوماسياً في السفارة الإيرانية في الجزائر أوصل كميات أسلحة إلى جبهة البوليساريو، وقالت إنه لا أساس لذلك من الصحة.
بيد أنّ سرعة المغرب وحسمه في إنهاء علاقاته الدبلوماسية مع إيران ينطويان على قناعةٍ بحدوث تنفيذٍ محكم التنفيذ لصفقةٍ محتملة بين حزب الله و"بوليساريو". ووفقًا لمصدر مطلع قريب من إستراتيجية القصر الملكي في الرباط، "قد يكون هناك عنصر استغلال للحظة السياسية، لكن يبدو من غير المحتمل أن تقوم الحكومة المغربية بخطوة من هذا القبيل"، إلا أنه شدد على أن "المخابرات المغربية لا تتلاعب بمسألة حساسة مثل هذه".
ربّ ضارّة نافعة؟
قد يكون المسلسل السياسي الجديد "للمؤامرة" بين إيران وحزب الله ضد المغرب بمثابة سيفٍ ذي حدين في التعامل مع صراع طويل الأمد في الصحراء المغربية، فالسجال الراهن بشأن دور إيران وحزب الله يضيف إلى الاضطراب الحالي وانعدام الثقة بين المغرب والجزائر والبوليساريو في تبني خطة الأمم المتحدة المتجددة للسعي إلى "حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين يقوم على حق تقرير المصير لشعب الصحراء". وبدلاً من تمديد ولاية "المينورسو" عاما على غرار الأعوام السبعة والعشرين الماضية، اختار مجلس الأمن هذه المرة التمديد ستة أشهر، حتى 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. ويأتي هذه التغيير في مدة صلاحية القوة الدولية ضمن سلسلة من تهم الاستفزاز المتبادلة بين الطرفين.
في أوائل أبريل/ نيسان، اشتكت الرباط من بعض "عمليات الاستفزاز المتكرّرة" التي قامت بها البوليساريو في الكركرات وبير لحلو والمحبي، والتي تمثل المنطقة العازلة، شرق الجدار الأمني الذي بناه المغرب. وتعهد رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني بأن بلاده لم ولن تسمح بتغيير المعطيات على أرض المنطقة العازلة خاصة ما يتعلق بتشييد بعض البنايات. وضمن رسالة موجهة إلى مجلس الأمن، ذكر سفير المغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، أن الرباط تعتبر أي محاولة لجبهة البوليساريو لتغيير الوضع على الأرض "حجة للحرب". وهدّد بأن بلاده ستردع "استفزازات" البوليساريو، وانها "لن تقف مكتوفة الأيدي بسبب تدهور الوضع على الأرض".
في الوقت نفسه، يبدو الشرخ الجديد في العلاقات المغربية الإيرانية مناسبةً لبعض الانتهازية الدبلوماسية لبعض الدول الحليفة للمغرب. وأعربت عواصم في الخليج، ومناطق أخرى، عن تأييدها قرار المغرب ضمن المعادلة الشاملة لمنطق الكسب والخسارة بين الخليج والمغرب العربي. وتموضعت عواصم خليجية ضمن صف "الحلفاء" في التحالف المناهض لإيران الذي يقوده الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووليا عهد السعودية والإمارات، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
ويبدو أن هناك توظيفا لرأس المال السياسي المتعمد في ترديد صدى ما يمكن اعتباره استراتيجية مضادة ناشئة للمساعدة في احتواء النفوذ الإيرانية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، عبرت المملكة العربية السعودية عن تضامنها مع "المملكة المغربية الشقيقة". وندّد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ضمن تغريدة "بما فعلته إيران بالمملكة المغربية من خلال وكلائها (حزب الله) الذين يدربون ما يسمى جبهة البوليساريو". وجدد أيضا تهمه ضد إيران "بزعزعة أمن الدول العربية والإسلامية من خلال إشعال الطائفية والتدخل في شؤونها الداخلية ودعم الإرهاب". وكانت هذه المعادلة المناهضة لإيران والمؤيدة للمغرب واضحة أيضا في رد الفعل الإماراتي. فقد ذكّر وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش بعلاقات بلاده المتينة مع المغرب. غير أنّ وزارة الخارجية القطرية اختارت التركيز أكثرعلى ضرورة الحفاظ على سيادة المغرب "ضد أي محاولات تهدف إلى تقويض وحدته"، مع الاحترام الواجب لمبادئ العلاقات الدولية، من دون إثارة دور إيران. وقالت الوزارة في بيان أصدرته في الدوحة "إن دولة قطر تشدد على أهمية احترام المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول، وفي مقدمتها احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وحل النزاعات من خلال الحوار والسلم وحسب الأساليب المعترف بها دوليا".
لِمَ القطيعة ولماذا الآن؟
ليس من الحكمة فصل أي قرار سياسي مهم، مثل تخلي المغرب فجأة عن علاقات التقارب مع إيران بعد مصالحةٍ دامت أربع سنوات، عن دينامياته الراهنة ومساره المستقبلي. ويمكن للمرء أن يجادل بفرضيتين واردتين، ضمن غايات الدبلوماسية المغربية:
أولاً، يمثل قرار المغرب القطيعة مع إيران حسابًا ثنائي الرّهان من القيادة المغربية في مقابل الأجندة الراهنة للبيت الأبيض والرباعي المعادي لقطر (السعودية والإمارات والبحرين، وإلى حدّ أقلّ مصر) في السعي إلى خنق إيران سياسيا واقتصاديا. وقد جادل مراقبون بأن "المغرب
وهناك أيضا عامل جون بولتون، المستشار الجديد لشؤون الأمن القومي الأميركي في البيت الأبيض، بعدما كان داعيا شرسا لحق تقرير المصير لسكان الصحراء، وأحد قياديي حملة الضغط التي مولتها الجزائر لصالح "بوليساريو" في واشنطن. لا يزال صعبا على الرباط أن تنجح في تلطيف الحواف القاسية لعلاقات أميركا ترامب مع حليفها على الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي. وفوق كل الحسابات الإستراتيجية، قد تكون معاداة إيران عملة رائجة الآن في واشنطن، وأيضا في الخليج. وكما ينصح القول المأثور، بحجرة واحدة، يمكن للرباط أن تقتل عصفورين في آن.
ثانياً، تميل الفرضية المضادة إلى ترجيح استراتيجية المغرب الأصلية إزاء الجزائر المجاورة التي تعتبرها المؤسسة السياسية المغربية العضلات والدماغ خلف واجهة جبهة بوليساريو. ولا يمكن أن يكون إلغاء الرباط العلاقات الدبلوماسية مع طهران أكثر من مجرد بيدق مواتٍ لتحريكه استراتيجيا عبر رقعة الشطرنج للمساعدة بهدف "كشف" الأعمال الخفية للقيادة الجزائرية في إيجاد نقاط جديدة لدعم بوليساريو هذه المرة في الشرق الأوسط. وبالنظر إلى الديناميات النفسية للصراع الطويل الأمد، انطوى قرار النافذة القصيرة التي تمتد ستة أشهر فقط قبل انتهاء ولاية "المينورسو" الحالية نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، على عنصر القلق في الرباط والتوجس من ضبابية موقف مجلس الأمن. ومن المرجح أن خبراء استراتيجيين في القصر الملكي في الرباط قرّروا استخدام بطاقة تهمة "التعاون" بين المثلث الجديد الذي يورّط حزب الله وطهران والجزائر، في تحول تكتيكي، على أمل الحصول على مزيد من التأييد من الولايات المتحدة وفرنسا وحلفاء الخليج، مثل السعوديين والإماراتيين، بعد شهرين من التوتر على طول الجدار الأمني العازل في الصحراء.
محمد الشرقاوي
باحث مغربي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، من أحدث مؤلفاته بالإنجليزية "ماهو التنوير: استمرارية أم قطيعة في أعقاب الانتفاضات العربية".
محمد الشرقاوي
مقالات أخرى
22 اغسطس 2022
08 اغسطس 2022
25 مايو 2022