04 نوفمبر 2024
نرجس سوري
بفضل الطابع الاجتماعي للعمل، تمكّن الإنسان من أنسنة الطبيعة التي كانت تحدّياتها حافزاً لابتكارات الإنسان الأولى. أتاح استمرار تلك الابتكارات طرائق وأدوات مكّنت من التحرّر من الحتمية الطبيعية، وتحقيق قدرٍ من الوفرة يسدّ حاجات الإنسان الضرورية، انتقل بعدها إلى توفير الحاجي والكمالي (مرحلة التمدّن). وتذهب الأنثروبولوجيا، في بعض توجهاتها، إلى أن مناطق الوفرة، كالغابات المدارية والاستوائية، أبقت على جماعاتٍ بشريةٍ في مرحلتي البربرية والتوحش، حيث لم تواجه تلك الجماعات تحدياتٍ حقيقية، تتطلب كدحاً يراكم معه خبراتٍ عمليةً ونظرية.
أحدثت الثورة العلمية انقلاباً جذرياً في التاريخ البشري، فامتلكت المجتمعات المنتجة للعلم وتطبيقاته (التكنولوجيا)، قدرةً هائلة على التنظيم والتحكم والسيطرة على الطبيعة، حققت لها الوفرة والرخاء والاستقرار الاجتماعي والسياسي، لتكرّس بينها وبين المجتمعات التي اكتفت بنهايات العلوم، من دون مناهجها، واستهلاكها التكنولوجيا من دون إنتاجها، فواتاً حضاريا. الوفرة الاقتصادية، والاستقرار الاجتماعي السياسي، وليس الحرمان والمعاناة في مواجهة تحدياتٍ مستمرة، باتت اليوم العامل الأساسي في إطلاق طاقات الإنسان، وإبداعه الفردي والجماعي.
وإذا كانت دراسات نفسية (ألفرد إدلر) تؤكد أن تحدياتٍ متمثلةً بإحساس الفرد بالنقص تدفعه إلى التعويض عن طريق تأكيد ذاته، حتى يصل إلى حدٍّ لا يستطيع بلوغه من كان يشعر بتفوقهم عليه، إذا كان ذلك صحيحاً، فإن أي تعويضٍ ممكن لم يعد ظاهرةً فرديةً معزولةً عن الحركة الاجتماعية، فقدرة الأفراد على الإبداع باتت أكثر ارتباطاً بالسقف الاجتماعي والسياسي المتاح، فإن استطاعت مجتمعات الأمس، ذات التطور البطيء، والحاجات البشرية المحدودة، النهوض بقيادة شخصياتٍ استثنائيةٍ، فإن مجتمعات اليوم ذات التراكم المعرفي الهائل، والتغير السريع، والحاجات المتنامية، تنهض بإمكاناتها الجماعية، وقدرتها على توظيف إبداعات الأفراد وجهودهم وتنظيمها، والتأسيس للإبداع كروح جماعية.
النرجسية، بوصفها ظاهرةً سيكولوجية وسوسيولوجية، تمارس دورها، من حيث كونها آليةً
دفاعية هدفها التعويض، وربما كانت مجتمعاتنا العربية التي تعاني اضطراباً حادّا (بعضها يتفكّك اليوم)، هي من أكثر المجتمعات نرجسية. وتطبع مأساةُ السوريين التي بلغت حداً غير مسبوق نرجسيتَهم بنكهةٍ خاصة، يلحظها المتتبع لأحاديث السوريين ويومياتهم، في عالميهم الواقعي والافتراضي على اختلاف ولاءاتهم. تطيح هذه النرجسية، إضافة إلى الموضوعية، كل الاعتبارات الإنسانية والحسابات السياسية، أما الإعلام المسكون بصناعة الحدث، وإكسابه بعداً درامياً، فيلعب دوراً في تضخيمها.
تذهب هذه النرجسية، في بعض وجوهها، إلى أن استقبال أوروبا لاجئين سوريين لم يكن من باب كرم الأخلاق، أو حسن الضيافة، أو الحسّ الإنساني، ولا نتيجة حسابات ومصالح سياسية، بل طمعاً في كفاءات السوريين المتميزة التي بهرت الغرب. أما الحديث عن تفوّق الطلاب السوريين من اللاجئين في المدارس والجامعات الأوروبية (هل كان معظم هؤلاء متفوقين في المدارس والجامعات السورية؟) فلا يزال مستمرا.
وأيضا، يتفاخر السوريون، على الرغم من حسرتهم وإحساسهم بالمرارة، بقدراتهم في التحايل على ظروف الحرب والجوع والحصار، عبر ابتكارات "عبقرية" في توليد الكهرباء، واستجرار المياه، واستخراج النفط أو إعادة إنتاجه، وتوفير البدائل الطبية والإسعافية. وتبلغ تلك العبقرية/ النرجسية قمتها، حين يسلّم طيفٌ واسعٌ من السوريين باعتقاد مفاده بأن الولايات المتحدة الأميركية امتنعت عن دعم بعض المعارضة السورية المسلحة بأسلحةٍ متطورة، تقلب موازين المعركة، لخشيتها من "العبقرية" السورية، القادرة على كشف أسرارها العلمية والعسكرية، وإعادة تصنيعها. الشواهد كثيرة لا يتسع المجال لها هنا.
منذ نكبتهم المستمرة، لم يكن الفلسطينيون بحاجة إلى النرجس، ما داموا فلسطينيين، ليدركوا
أخيراً كم كذبوا على أنفسهم، وأنهم ليسوا استثناء (وفق تعبير شهير لشاعرهم محمود درويش)، واحتاجوا إلى ثلاثة أرباع قرن، ليتحرّروا من نرجسيتهم (بعضها على الأقل)، فيواجهوا مرارة واقعهم، مدركين وَهْمَ مركزيّة قضيتهم، ويكتشفوا أن أيديهم خلوٌّ من أية مبادرة سياسية حقيقية. هل سيحتاج السوريون إلى كل تلك المدة من التضحية بالموضوعية العلمية والسياسية؟ لا نأمل ذلك.
لاشك أن صمود الشعب السوري في وجه مأساته يفرض احترامه على الجميع، ووجود أفراد مبدعين من السوريين، لاسيما في هذه الظروف الاستثنائية، أمر طبيعي، لم يخل منه شعب في التاريخ، مهما كان حجم معاناته. لكن هناك فرقا جوهريا بين صمود شعبٍ في وجه المعاناة وامتلاكه إرادة الحياة التي تمكّنه من التكيف مع أساليب ووسائل معيشية وإنتاجية، هي بدائية مهما كانت مبتكرة، والاكتفاء بها لعدم توافر بدائلها تكنولوجياً، وبين الحديث عن عبقريةٍ أو إبداع سوري، قد تتاح له فرص باندماج اللاجئين في مجتمعات اللجوء. وهنا، طبعا، لا يكمن المعنى العميق في كلمة "سوري".
لا يزال الطريق نحو استثناء سوري حقيقي طويلا وشاقا، تتطلب الخطوة الأولى منه مجتمعاً معافى ودولة حديثة. كان الله في عوننا، فلسطينيين وسوريين.
أحدثت الثورة العلمية انقلاباً جذرياً في التاريخ البشري، فامتلكت المجتمعات المنتجة للعلم وتطبيقاته (التكنولوجيا)، قدرةً هائلة على التنظيم والتحكم والسيطرة على الطبيعة، حققت لها الوفرة والرخاء والاستقرار الاجتماعي والسياسي، لتكرّس بينها وبين المجتمعات التي اكتفت بنهايات العلوم، من دون مناهجها، واستهلاكها التكنولوجيا من دون إنتاجها، فواتاً حضاريا. الوفرة الاقتصادية، والاستقرار الاجتماعي السياسي، وليس الحرمان والمعاناة في مواجهة تحدياتٍ مستمرة، باتت اليوم العامل الأساسي في إطلاق طاقات الإنسان، وإبداعه الفردي والجماعي.
وإذا كانت دراسات نفسية (ألفرد إدلر) تؤكد أن تحدياتٍ متمثلةً بإحساس الفرد بالنقص تدفعه إلى التعويض عن طريق تأكيد ذاته، حتى يصل إلى حدٍّ لا يستطيع بلوغه من كان يشعر بتفوقهم عليه، إذا كان ذلك صحيحاً، فإن أي تعويضٍ ممكن لم يعد ظاهرةً فرديةً معزولةً عن الحركة الاجتماعية، فقدرة الأفراد على الإبداع باتت أكثر ارتباطاً بالسقف الاجتماعي والسياسي المتاح، فإن استطاعت مجتمعات الأمس، ذات التطور البطيء، والحاجات البشرية المحدودة، النهوض بقيادة شخصياتٍ استثنائيةٍ، فإن مجتمعات اليوم ذات التراكم المعرفي الهائل، والتغير السريع، والحاجات المتنامية، تنهض بإمكاناتها الجماعية، وقدرتها على توظيف إبداعات الأفراد وجهودهم وتنظيمها، والتأسيس للإبداع كروح جماعية.
النرجسية، بوصفها ظاهرةً سيكولوجية وسوسيولوجية، تمارس دورها، من حيث كونها آليةً
تذهب هذه النرجسية، في بعض وجوهها، إلى أن استقبال أوروبا لاجئين سوريين لم يكن من باب كرم الأخلاق، أو حسن الضيافة، أو الحسّ الإنساني، ولا نتيجة حسابات ومصالح سياسية، بل طمعاً في كفاءات السوريين المتميزة التي بهرت الغرب. أما الحديث عن تفوّق الطلاب السوريين من اللاجئين في المدارس والجامعات الأوروبية (هل كان معظم هؤلاء متفوقين في المدارس والجامعات السورية؟) فلا يزال مستمرا.
وأيضا، يتفاخر السوريون، على الرغم من حسرتهم وإحساسهم بالمرارة، بقدراتهم في التحايل على ظروف الحرب والجوع والحصار، عبر ابتكارات "عبقرية" في توليد الكهرباء، واستجرار المياه، واستخراج النفط أو إعادة إنتاجه، وتوفير البدائل الطبية والإسعافية. وتبلغ تلك العبقرية/ النرجسية قمتها، حين يسلّم طيفٌ واسعٌ من السوريين باعتقاد مفاده بأن الولايات المتحدة الأميركية امتنعت عن دعم بعض المعارضة السورية المسلحة بأسلحةٍ متطورة، تقلب موازين المعركة، لخشيتها من "العبقرية" السورية، القادرة على كشف أسرارها العلمية والعسكرية، وإعادة تصنيعها. الشواهد كثيرة لا يتسع المجال لها هنا.
منذ نكبتهم المستمرة، لم يكن الفلسطينيون بحاجة إلى النرجس، ما داموا فلسطينيين، ليدركوا
لاشك أن صمود الشعب السوري في وجه مأساته يفرض احترامه على الجميع، ووجود أفراد مبدعين من السوريين، لاسيما في هذه الظروف الاستثنائية، أمر طبيعي، لم يخل منه شعب في التاريخ، مهما كان حجم معاناته. لكن هناك فرقا جوهريا بين صمود شعبٍ في وجه المعاناة وامتلاكه إرادة الحياة التي تمكّنه من التكيف مع أساليب ووسائل معيشية وإنتاجية، هي بدائية مهما كانت مبتكرة، والاكتفاء بها لعدم توافر بدائلها تكنولوجياً، وبين الحديث عن عبقريةٍ أو إبداع سوري، قد تتاح له فرص باندماج اللاجئين في مجتمعات اللجوء. وهنا، طبعا، لا يكمن المعنى العميق في كلمة "سوري".
لا يزال الطريق نحو استثناء سوري حقيقي طويلا وشاقا، تتطلب الخطوة الأولى منه مجتمعاً معافى ودولة حديثة. كان الله في عوننا، فلسطينيين وسوريين.