نداء تونس

06 نوفمبر 2014

مشهد في سيدي بوزيد في ذكرى البوعزيزي (17ديسمبر/2013/الأناضول)

+ الخط -

لا نقصد بعنوان هذه المقالة الإشارة إلى اسم الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية في تونس، على الرغم من إيحاءات ربط عديدة تحضر عَرَضاً في سياق البسط والتحليل. ومفردة نداء، في عنوان المقالة، تستوعب جوانب من محمولات الحزب، وتتجاوزها في الوقت نفسه.   

بداية، لا نتفق مع مواقف كثيرة تقرأ الحدث التونسي، المتمثل في الثورة وتداعياتها، بصورة تتجاوز كونه مجرد حدث تاريخي، يندرج ضمن مرحلة انتقاليةٍ في مجتمع نجح في إطاحة نظامه السياسي المستبد، لتعمل على تحويل الحدث المذكور إلى نموذج في التحول الديمقراطي، ولعل في الأمر مبالغات عديدة. لهذا، سنسهم، هنا، بالروح التاريخية الصانعة مختلف أنماط تطور وتحول ما جرى ويجري في تونس، وذلك في علاقته المتينة بخصوصيات التجربة التونسية في التحديث، منذ خير الدين التونسي إلى الحبيب بورقيبة، وقد صنع رصيد هذه التجربة كثيراً من أمارات المجتمع التونسي.

نقرأ في ضوء المرجعية السابقة، وما يرتبط بها من صراعات وطموحات، نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، بالصورة التي تُمَكِّننا من معاينة كيف تختبر النخب السياسية في تونس رصيدها وتجربتها في تجاوز تعثرات ما بعد الثورة. فلا يمكن، في نظرنا، فصل هذه التجربة عن رصيد التاريخ المعاصر في مجال تحديث المجتمع التونسي، صحيح أن الرصيد الذي نتحدّث عنه لحقته شوائب عديدة في زمن انقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة، إلى أن تونس العميقة انتفضت منادية، وبصوت عالٍ برحيل ابن علي، وتطلعت مجدداً بعد عثرات الطور الانتقالي الأول، لتواصل النداء، مُستهدفةً استكمال مساراتها في الإصلاح والتحديث.  

إن نداء تونس وتطلعات التونسيين في الانتخابات التشريعية تفيد بأن تونس تتطلع إلى استكمال تحديثها، بجعل الخيار الديمقراطي أفقاً لاستكمال تجذير التحديث السياسي، بالصورة التي تبني عهد أمان جديد، يتيح المساواة بين الجهات، ويمنح قيم التقدم والعدالة الشروط المناسبة لمسار تاريخي، صانع لحدث الثورة والدستور والديمقراطية ومختلف مكاسب الانفجار.

يحيل النداء، في العنوان، إلى لزوم رد الاعتبار إلى هيبة الدولة وكرامة المواطن. وإذا كانت الثورة قد عجّلت برحيل الاستبداد، فإن المهمة الأصعب تتمثل، اليوم، في إعداد العدّة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطلوبة لاستثمار الرصيد التحديثي الحاصل في المجتمع، للتمكن من بناء المشروع السياسي الديمقراطي.

تشير كلمة نداء إلى الصوت المُفْصِح الذي ركَّب الصيغة الملائمة لتحولاتٍ حصلت بعد الثورة، ولم يكن ممكناً توقيف ما ترك من تناحر واستقطاب في المجتمع، إلا بجمع ما تشتت من القوى الوطنية، المؤمنة بقَدَر تونس في التحديث، قصد توقيف أي محاولة للتراجع عن مكاسب رصيد تاريخي، أصبح، مع الزمن، وعلى الرغم من كل ما عرفته تونس في العقود الأخيرة من استبداد وفساد، عنواناً لهوية جديدة يصعب التخلي عنها. ضمن هذا الأفق، يتجه النداء، وهو يعبر عن إرادات وتطلعات جماعية إلى وضْع برنامج انتقالي، يستهدف، مباشرة، حَدَثَ انتخاباتٍ تشريعية محددة، ويستوعب، في الآن نفسه، استكمال التحديث.

مكّنتنا الأحداث الصانعة لتداعيات ما بعد الثورة في تونس من إدراك نوعية التحول التي انخرط فيها الفاعلون السياسيون، وهم يُرَكِّبُون مَلامِحَ مشهدهم السياسي الجديد، وأتاحت لنا معاينة كيفية استعمال المجموعات التي تحالفت من أجل بلورة النداء، وقد أدركنا، في غمرة انخراطهم في المجابهات وفي العمل، وكذا في نوعية تشخيصهم واقع الصراع في تونس ما بعد الثورة، كيف استطاعوا مَنْحَ صورتهم ومواقفهم امتيازَ التعبير عن تطلعات تونس العميقة، وكذا مَنْح مواقفهم المتعددة والمتنوعة القدرة على الإمساك بما يُسعف بِتدارك مُنزلقاتِ ما بعد الثورة ومخاطرها، الأمر الذي يُضاعف، اليوم، مسؤولياتهم في إمكانية ترسيخ قِيمِ تَدَاوُلِ السلطة واقتسامها.

تحدث النداء بأصوات معروفة، وقد كانت أغلب مكوناته تقف في المعارضة طوال فترة حكم أغلبية حزب النهضة. ولأن نداء تونس حركةٌ وَتَجَمُّعٌ، فقد استوعب في حركته كثيراً من الأوجه التونسية، مُغَلِّباً، في الظرفية الانتقالية، مختلف الآليات القادرة على توقيف رياح التقليد.

اختار النداء أن يكون مسموعاً، بل نستطيع القول إنه اشتغل بما يعتبر أنها الآليات الأنجع في الراهن التونسي، ليتمكن من العودة إلى سياقات التحديث، بعد أن عملت الثورة على رفع نزيف الاستبداد والفساد. ولا شك أن الذين تابعوا بعناية صُورَ حضور من كانوا يهتفون بلغة النداء، ويتموقعون خلفه، أدركوا أن هؤلاء أبْدَوْا مرونة كثيرة، وهم يتعاطون مع الملفات التي ملأت الساحة التونسية منذ انتخابات 2011، بحكم أن ما حصل، في الانتخابات الأولى بعد الثورة، كان صاعقاً، فاقتضى ذلك إعلان أن نداء تونس يتعلق، أولاً وأخيراً، بالبحث في كيفية تحويل خيار التحديث في تونس إلى خيار نهائي.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".