نحو مشروع نهضوي عربي جديد

05 ابريل 2014

محمد عبده دعا إلى أن يكون الدين دين مدنية

+ الخط -
قد يكون الواقع العربي الحاضر، بتداعيات التخلف عليه، والتأخر الذي يعيش، هو ما يدعو إلى التفكير، والدعوة إلى "مشروع نهضوي عربي جديد"، يعيد إلى الواقع اعتباره الحضاري، وإِلى الإنسان وضعه الثقافي، في الأقل، كذاك الذي كان له قبل نصف قرن، والذي وجدنا غير مفكرٍ من مفكرينا يرى فيه وضعاً متقدماً، بأساليب التفكير التي سادته، أو بالفكر الذي أُنتج. إلا أَن السؤال الذي تثيره مثل هذه الدعوة: هل نستعيد مشروعنا النهضوي الذي بدأناه قبل أكثر من قرن، فنعيد إثارة أسئلته لنواجه بها الحاضر، ما دامت "عوامل التخلف" التي تصدّى لها هي ذاتها التي تواجهنا، ونواجهها اليوم: تأخر حضاري، وانهيار للبنى الحضارية، وتراجع ثقافي، وانكسار في أساسيات المعرفة التي يتعاطى العقل معها، والانسحاب من ميدان "المعرفة العلمية" إلى "اليقين الخرافي"، والانحطاط في مستويات الحياة كلها، وإنْ دخلتها التكنولوجيا الحديثة؟ أَم نضع تساؤلاتنا النهضوية الجديدة، أَو هكذا يفترض أَن تكون، في مستوى جديد، تفرضه التحديات الراهنة، وقد دخلتها الإمبريالية العالمية، بكل ما تحمل من توجه كولونيالي جديد، فذهبت بما كان قد اجتمع لنا من عناصر التنمية، وحدّت من قدرة النمو في مجتمعاتنا، وحاصرت كل رؤية جديدة تحمل النهوض، أَو تبشّر به؟
وهل علينا في هذا، إِذا ما بدأناه، أَن نبدأ من المستوى القطري، وبه، أم نتعاطى معه في مستوى الأمة، بوصفها كياناً تاريخياً يعيش الحالة ذاتها، ويمرّ بمفترقات التأخر، ويعاني من نُظم، إنْ لم تكن واحدة التوجه والمنزع فهي متماثلة.. حتى في "حماية التخلف"، لا يعنيها شيء أكثر من الاستمرار، وإِن في واقع متراجع، وعلى المستويات كلها؟. والسؤال الأهم هو عن الكيفية التي يمكن أن تحدّ من "التبعية الجديدة"، في واقعٍ يشهد "عودة الاستعمار" بروح كولونيالية نهمة؟
هذه التساؤلات، على أَهميتها وخطورتها، تواجَه اليوم بمشروعين: فمشروع يمكن وصفه بـ"المستعاد"، يتمثل في "الأطروحات القومية"، والتي غالباً ما تحافظ على "أُصولها الأولى"، ولا تأخذ التحديات بما تحمل من قدرةٍ على التجدد والاستمرار. والمشروع الآخر هو الذي تمثله "العولمة"، وتحمله الكولونيالية الجديدة، مقدّمة منه مشروعاً مستقبلياً لـ"إعادة بناء العالم"، لإعادة هذا العالم إلى "محيطها التاريخي".
ليس هذا التحدي الوحيد الذي يواجه هذا الفكر وأطروحاته، وإنما هناك ما يمكن أَن نصطلح عليه "فكر التفكيك" لكل من التاريخ، والواقع، والثقافة. ونعني به "الفكر" الحامل أُطروحاتٍ لا تاريخية، منها ما هو تعصبي إِثني، ومنها ما هو تعصبي مذهبي. بل نجد هذا "الفكر" عاملاً مساعداً لـ"العولمة" في أن تمتد على أَرضه، وتسود واقعاً، لما هناك من عوامل التماثل بين ما تؤديه أُطروحتاهما: فكل منهما تعمل على إِحلال فلسفةٍ جديدة للتاريخ، تقوم على "الصراع" و"الصِدام"، أكثر من قيامها على "الحوار". وكلتاهما لا تأخذ نفسها إِلا بما ترى، وتلتزم من "حقائق" افتراضية، فالعولمة تقول بتجاوز الحاضر إلى ما تصنع من أفق، ينفتح على ما ترى من مستقبل، تعمل على تأسيسه بمقتضى افتراضاتها. والمذهبية المتطرفة، من جانبها، تقوم، تفكيراً ورؤية، على تجاوز الحاضر، بما تتمثل من "دورة استعادية" لماضٍ تتمسك بمنطقه، وتقول باتباع رموزه. كما أنها لا تأخذ الدين كونه "دين مدنية"، كما دعا الشيخ محمد عبده إلى أَن يكون، لأنها إذا ما أخذت بهذا المنطق، فذلك سيعني، في أَخص ما يعنيه، تحديث المجتمع، وتطوير النظرة التاريخية للإنسان فيه، فضلاً عن الأخذ بمعطيات الثقافة الحديثة، وبمنطق العلم. فكلتاهما، في هذا، تقوم على عزل ما للعقل من فاعلية نقدية، وكلتاهما تقوم على مصادرة فكرة "الحوار" بروح جدلية تاريخية، مكتفية بما تعتمد من "أصول"، كما تعتمدان ما يمكن وصفه وتعيينه بـ"المحاكاة الاتباعية".
وإذا كانت العولمة توجد واقعاً لا تاريخياً، ومن ثم ثقافة بلا هوية، تحاصره بمنطقها، فإن المذهبية المتطرفة لا تأخذ إِلا بما لها من تاريخ، فتحصر نفسها، وتحاصر المجتمع الإنساني بهذا التاريخ، ويحل "الفقيه" منظّراً وموجِّهاً في التوازي مع المنظّرين للعولمة ودعاتها. فالثقافتان، العولمية والمذهبية، لا تستجيبان إِلا لمنطقهما، وما تأخذ كل منهما نفسها به، ولا تعنيها تلك الشروط النوعية للثقافة التي تؤسس لما هو تاريخي. فهي، في حال حضورها، تعدّ نفسها "مركزاً"، يُحلّ نوعاً من "التراتبية المفروضة"، وهي تراتبية تعتمد، في الحالتين، "الوعي الزائف". وسبيل "ثقافة العولمة" فيما تعمل على إشاعته هو اعتماد "تنميط" فكر الإنسان، خطوةً نحو تنميط العالم. وتعتمد المذهبية المتطرفة ما ندعوه "التمركز حول الذات" في ما تفترض من بُعد تاريخي، وإن كان الوهم، والمتوهم، نسيجه. وكلاهما يأخذ نفسه بأحادية الرؤية، ولا يستوعب، أو يُقرّ التعدد والاختلاف. والسؤال هنا: من أين ينبغي أن نبدأ تأسيس مشروعنا النهضوي الجديد هذا؟
 لا بدّ من بدايةٍ تأخذ نفسها بمنطق المساءلة الجذرية التي تحرر الإنسان من حال الاتباعية، وعقدة الاتباع. وعلينا، في هذا، أن ننطلق من واقعنا الحاضر، لأن ما يجري على أرضه هو المطلوب تغييره، والتغلب عليه.
7D7377FF-D2B6-4FE4-BFE1-A2312E714BB6
ماجد السامرائي

كاتب وناقد باحث عراقي