نحو قضاء مستقل في تونس

28 مايو 2015
+ الخط -
طرحت الحكومات المتعاقبة على بلدان الربيع العربي، طيلة عقود، بديلاً دكتاتورياً للديمقراطية، يقوم على أساس القمع الممنهج للحرّيات والانتهاك للحقوق الأساسية للمواطن وطمس العدالة بتطويع الهيئات القضائية وتوظيفها وتحويلها إلى عصا غليظة تدق أعناق معارضيها في خرق واضح لأبسط مقومات الديمقراطية.

ولإن اتجهت الثورة في تونس إلى تغيير البنى السياسية والاجتماعية للدولة تمسكاً بسيادة القانون وعلويته في مواجهة تغولّ السلطة التنفيذية "المتمثلة في رئيس الجمهورية في العهد السابق" وتكريساً لمبدأ الفصل بين السلط واستجابة لإرادة الشعب التونسي وتحقيقاً لأهداف الثورة.

وامتثالاً لذلك أقر دستور الجمهورية التونسية الثانية في الفصل 102 من الباب الخامس"السلطة القضائية" على أنّ القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحرّيات".

أصبح استقلال القضاء في تونس بعد الثورة مطلباً ملحاً لدى الفرقاء السياسيين وفاءً لناخبيهم وتحدياً ثانيّاً لعبور مسار الانتقال الديمقراطي بنجاح ولضمان بناء مؤسسات تقوم على أساس العدل وحماية الحقوق والحرّيات.

في هذا الإطار قدّمت الحكومة التونسية مشروع قانون أساسي، يتعلق بإرساء مجلس أعلى للقضاء على أنظار مجلس نواب الشعب بتاريخ 12 مارس/آذار 2015، حيث أحيل على أنظار لجنة التشريع العامّ التي انهت مناقشته بعد عقد 26 جلسة نقاش صباحية ومسائية و18 جلسة استماع لتنطلق أشغال الجلسة العامة منذ يوم 12 مايو/أيار 2015 لمناقشة مشروع القانون وللمصادقة عليه.

واتفقت الطبقة السياسية التونسية على أنّ استقلال القضاء من أولويات المرحلة الرّاهنة إلاّ أنّ إجماعها على هذا المبدأ لم يكن حائلاً أمام الاحتجاجات والانسحابات التي شهدتها أولّ جلسة حددت لمناقشة مشروع سيساعد تونس على المضي قدماً نحو القطع مع منظومة طوعّت لفائدة حاكم جائر، استغلّها لتصفية خصوم سياسيين، فقد أثار مشروع القانون منذ الإعلان عن انتهاء صياغته من وزارة العدل التونسية موجة من الانتقادات، حيث انتفضت كل الهياكل القضائية بمختلف أصنافها من قضاة ومحامين وعدول تنفيذ وعدول إشهاد، للتعبير عن مواقفها الرافضة والمنددة ببعض الأحكام المضمنة بالنصّ التشريعي كلّ وفق ما يتلاءم مع مصلحة القطاع الذي ينتمي إليه.

النقاط الخلافية في مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء خلال الجلسة الأولى من مناقشته:
نصّ الدستور التونسي في بابه الثالث على السلطة التشريعية والمتمثلة في مجلس نواب الشعب وفي بابه الرابع على السلطة التنفيذية والمتمثلة في قسمين، الأول يمثل رئيس الجمهورية، والثاني يمثل رئيس الحكومة التونسية، أما الباب الخامس خصص للسلطة القضائية والتي قسمّت بدورها الى قسمين، القضاء العدلي والإداري والمالي بفروعه الأربعة "المجلس الأعلى للقضاء، القضاء العدلي، القضاء الإداري، القضاء المالي، أما القسم الثاني فخصص للمحكمة الدستورية وذلك عملاً بثنائية التمثيليات إلغاءً لمفهوم احتكار السلطة، وتعميقاً لمبدأ التشاركية والرقابة بين السلط.

ووفقاً لمشروع القانون الحالي يكون القضاء التونسي ممثلاً بجميع هياكله داخل السلطة القضائية، ولكن ظلّ هاجس الخوف من سيطرة السلطة التنفيذية ووزارة العدل ومن تركيع القضاء لطرف على حساب آخر طاغياً على مواقف الأطياف السياسية في تونس، فقد قدّمت كتلة الجبهة الشعبية المعارضة التونسية وكتلة آفاق تونس الشريك الرابع في الائتلاف الحكومي التونسي استناداً للفصل 102 من الدستور التونسي، والمذكور أعلاه ورغبة في تصحيح مسار اعتبروه قدّ حُرّف حين لم يتم التنصيص في الفصل الأول من مشروع القانون على إضافة كلمة، سلطة قضائية والاكتفاء بعبارة، أن المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية، وهو ما أدرجوه ضمن فلسفة التطويع وتمهيد عودة الاستبداد باعتبار القضاء مرفقاً لا سلطة. من جهة أخرى وحد جميع القضاة بمختلف أصنافهم العدلي والمالي والإداري صفهم للتصدّي لما اعتبروه إفراغ المجلس الأعلى للقضاء من صلاحياته وإزالة روح الحرّيات والديمقراطية منه منوهين إلى أنّ المشروع الحالي لا يخدم الحرّيات بل يكرّس الاستبداد، وتزامن نقاش هذا المشروع مع احتجاجاتهم أمام مجلس نواب الشعب التونسي بعد تعليق أعمالهم في جميع المحاكم التونسية لمدّة 5 أيام.


وأصرّت جمعية القضاة منذ تقديم الحكومة التونسية مشروع القانون على أن صيغة مقترح الفصل 109 المتعلق بتركيبة المجلس الأعلى للقضاء جاءت مخالفة تماماً للمعايير الدولية وتحديداً لمقتضيات الفصلين 17 و18 من الرأي عدد 10 لسنة 2007 للمجلس الاستشاري للقضاة الأوروبيين (CCJE).

لم تثن هذه الموجة من الاحتجاجات وسيل التصريحات التي سبقت مناقشة القانون وانسحاب المعارضة التونسية من النقاش العام، أكبر الكتل في البرلمان التونسي نداء تونس وحركة النهضة الاتحاد الوطني الحرّ وحتى كتلة آفاق تونس والتي تبنت بعض نقاط الخلاف وباقي الكتل الأخرى من مواصلة النقاش وعقد جلسات التأمت للتوافق على بقية فصول القانون إلى ساعات متأخرة من الليل، كما تمكنت الجلسة الأولى من التقدم في النقاش والمصادقة على 31 فصلاً من أصل 76 فصلاً بمشروع القانون.

وأثار هذا المشروع منذ بداية نقاشه جدلاً في عدّة نقاط خصوصاً في تركيبة المجلس وكيفية إفراز الثلث من غير القضاة وتوزيعهم على المجالس الثلاثة وتمثيلية القضاة العسكريين والهيكل الرابع الجامع للمجالس القضائية الثلاثة داخل المجلس فإنّ البرلمان التونسي واصل النقاش برغم التعثرات المتتالية التي تفضي إلى رفع الجلسة بين الفينة والأخرى لتعزيز التوافق بين الكتل البرلمانية وإزالة الصعوبات ميممين وجوههم نحو إرساء مجلس أعلى للقضاء يضمن الحق في محاكمة عادلة بعيداً عن كلّ التجاذبات وتحقيقاً لأهداف الثورة.


(تونس)
المساهمون