نحو طيّ صفحة "أوسلو"

15 سبتمبر 2018
+ الخط -
جاء توقيع اتفاق إعلان المبادئ المعروف باتفاق أوسلو، في سبتمبر/ أيلول 1993، نتيجة تقديرات خاطئة من الطرف الفلسطيني، وظروف ضاغطة عليه. أبرز التقديرات الخاطئة الاعتقاد أن المجتمع الإسرائيلي يجنح إلى السلم، وأنه يجب استثمار الفرصة بالإمساك بها وتطويرها، مع إغفال أن النزعة السلمية كانت طارئة على ذلك الكيان، ونطاقها ضيق يتمثل في تيار من حزبي العمل وميرتس. فيما يجد اليمين الأشد تطرفا جذورا له في المخيال العقدي الصهيوني، ولدى شرائح واسعة تجد أن تنكّب طريق التطرّف هو أفضل سبل الارتقاء الاجتماعي، ولإثبات الهوية الصهيونية لأصحابها.
ومن التقديرات الخاطئة تغليب المصلحة الفصائلية والفئوية لمنظمة التحرير على مصلحة الشعب والقضية، فقد كانت المنظمة مهدّدة بالخروج من مقرّها في تونس، وكانت مكانة القضية تتراجع في ظل الاهتمام المتنامي بأزمة الخليج. وهكذا وبدلا من أن ينتزع الجانب الفلسطيني في المفاوضات الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود العام 1967، ارتضى الاعتراف بالدولة العبرية مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير، وكأن المنظمة بذاتها دولة، وباحتسابها الأداة والغاية معاً.
ومن التقديرات الخاطئة الاستعاضة بقناة تفاوضٍ ثنائي سرّية، بدلاً من الإطار الدولي الذي كان متمثلا بمؤتمر مدريد، حيث أدار الطرف الفلسطيني المفاوضات من موقع الضعف والمسارعة، الأمر الذي مكّن الجانب الاسرائيلي من فرض شروطه، وخصوصا بالنسبة للاستيطان، مع الارتضاء بتأجيل بحث موضوع القدس، وهو ما عنى عملياً القبول الفلسطيني بعزل القدس عن بقية الأراضي المحتلة.
وبعد مضي ربع قرن على الاتفاقية، ومع بقاء بعض مفاعيلها سارية، فإن واقع الحال يدلّ على أنها باتت من الماضي، فقوة الاحتلال أسقطت من أجندتها، ومن حساباتها، اتفاقية أوسلو، 
باعتبارها اتفاقيةً آنيةً مرحلية من جهة، ولأنها، من منظورِهِ، أقلّ من معاهدة، وبالتالي غير مُلزمة، من جهة ثانية. ولأن اليمين المتطرّف الحاكم يرى في الاتفاقية، على الرغم من كل ما وفّرته له من مكاسب، بأنها تشكّل خطرا على مشروع "أرض إسرائيل"، حتى أن الطرف الآخر لم يعُد يأتي على ذكرها.
وبين سلسلة التداعيات والتفاعلات، منذ نحو عقدين، أن الطرف الآخر هو من قفز عن الاتفاقية، وانتهى به الأمر إلى إسقاطها، وذلك انطلاقا من رفضها له، وبما جعله عملياً في طليعة الرافضين للاتفاقية، والمعترضين عليها.
ولتدارك الأخطاء الجسيمة التي وقعت، ومن أجل شقّ طريقٍ إلى المستقبل، فإن المصلحة، إلى جانب الالتزامات الوطنية الأساسية، تقضي بطي صفحة هذه الاتفاقية، حتى لو كانت بعض تداعياتها ما زالت قائمة، مثل التنسيق المدني واتفاقية باريس الاقتصادية، إذ تعكس العلاقة القائمة حاليا بين السلطة الفلسطينة وقوة الاحتلال تفاهمات ثنائية بين الجانبين، تجسّد ميزان القوى السياسي والمادي القائم والراجح لمصلحة الاحتلال.
طي هذه الصفحة (مع الإفادة من دروسها وأخطائها) يمليه تغيّر الأوضاع، واتساع حجم التحديات، وتحول الإدارة الأميركية الحالية إلى طرف أكثر إسرائيليةً من إسرائيلية اليمين المتطرّف. وذلك وفقا للعقلية الضحلة لهذه الإدارة التي تسعى إلى التضحية التامة بالطرف المستضعف وبحقوقه، لنيْل رضا اللوبي الصهيوني المتشعب في أميركا. وقد كانت الأدبيات، في ما مضى، تتحدّث عن مشاريع تسوية تقود إلى تصفية للقضية، لكن مشروع التصفية الذي يقوده دونالد ترامب لا يلجأ إلى أية تسوية، وينطلق إلى غايته بدون مقدمات، ولا يتورّع عن منح المحتلين أكثر مما يرغبون ويطلبون، ما دام يدفع من "جيب" غيره.
لا حاجة للتغنّي باتفاقية أوسلو ولا للتنديد بها، فقد تجاوزتها الأحداث. وكان الغزو الاستيطاني سيستمر بها أو بدونها، وكذلك الاستيلاء على القدس واستباحة المسجد الأقصى والتهديد بالاستحواذ عليه. والتخلّي البادي في هذه الآونة عن القضية الفلسطينية هو ثمرة تحوّلات سياسية واجتماعية وثقافية في العالم العربي جعلت التضامن بين الشعوب، وحتى بين مكوّنات الشعب الواحد أحيانا، من إرث الماضي الجميل، فيما فُرضت أولوياتٌ على الحياة السياسية العربية من إيران الطامحة الجامحة إلى "داعش" والإرهاب إلى التوسّع الروسي، للوصول إلى قلب الشرق الأوسط. ويكاد التخلي عن الشعب السوري يبدو أشد وطأةً ومرارةً من السلبية حيال القضية الفلسطينية.
وبعيدا عن "أوسلو"، تعاطياً معها أو رفضاً لها، فقد تعلم الفلسطينيون الدرس بأن يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يبارحوا أرضهم (يقارب عددهم في عموم أرض فلسطين عدد الإسرائيليين)، 
في عالم ينبني أكثر فأكثر على المصالح، المباشرة منها والاستراتيجية، وأمام العقل السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته (والحديث ليس عن الفصائل المتكلسة) مهمة مخاطبة العالم بأن جملة من المصالح تملي الوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومناصرة حقوق الفلسطينيين في أرضهم، فالإرهاب يستخدم ورقة المظلمة الفلسطينية الكبرى، وإيران تستخدم اسم القدس. وذلك في استغلال خاطئ وزائف لقضية نبيلة ومشروعة، وهي حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال. ويتمتع الفلسطينيون بمكانةٍ سياسيةٍ جيدةٍ في الأمم المتحدة ومنظماتها، وقد تم، متأخرا، إدراك أهمية مقارعة الاحتلال في المحاكم الدولية.
وإذ نجح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في دفع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى اتخاذ مواقف مطابقة لأجندة الاحتلال، إلا أن مجمل سياسات ترامب الخارجية (ناهيك عن إجراءاته الداخلية) تُقابل بتحفظٍ في مختلف أرجاء العالم، بما في ذلك لدى الحلفاء الأوروبيين، ومنها بالطبع المواقف الشائنة والخرقاء تجاه القدس و"أونروا" والمساعدات المقدّمة إلى السلطة ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، وهو ما يزكّي الموقف الصائب بمقاطعة التحرّكات الأميركية.
والآن، وبدلاً من العودة إلى الوراء وهجاء "أوسلو"، من الأجدى تصحيح المواقف الخاطئة التي تعزّز الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فهذا الانقسام ليس نتيجة "أوسلو، بل حصيلة للتصادم بين مشروعين سلطويين، وعلى حساب وحدة الوطن والوحدة الوطنية. ومن الأجدى كذلك إطلاق الحركة الشعبية المدنية في الضقة الغربية، والتوقف عن احتجازها تحت دواع أمنية متهافتة، فالأمن الوطني يتحقق بالضغط على الاحتلال، وتظهيره قوة غاشمة وعنصرية تناوئ حتى الاحتجاجات المدنية. وما زالت حركة مقاطعة الاحتلال قائمةً في الغرب على المستوى الأكاديمي، وبما يتعلق بمنتجات الاستيطان غير الشرعي. والحياة لا تتوقف، وأرض إسرائيل المزعومة هي أرض الفلسطينيين الذين لا أرض لهم سواها، ولم يفدوا إليها من وراء البحار، كما فعل بقية الغزاة، ومنهم الصهاينة.