نحن ضحايا أيضاً

25 نوفمبر 2015
+ الخط -
تبدّى النفاق العربي، في أجلى حالاته، بعد "غزوة باريس"، ملأت دولة عربية سماءها بالأعلام الفرنسية، وليتها وضعت إلى جانبها أعلام فلسطين والعراق ولبنان وسورية. وبعث مسؤولون عرب برقيات مساندة مع ضحايا باريس، وهو أمر محمود، لا تفرضه قواعد البروتوكول وحسب، وإنما يقتضيه واجب المشاركة في المصيبة التي حطت من قبل في أكثر من بقعة عربية، وسنحمد فعلهم أكثر، لو فعلوا الأمر نفسه مع الضحايا من أبناء جلدتهم الذين طاولهم الإرهاب الأعمى، في بغداد والفلوجة والقدس وغزة وبيروت ودمشق.
شتم كتّاب عرب التراث العربي الإسلامي، لأنه السبب في الإيقاع بضحايا باريس الأبرياء، وطالبوا بمراقبة المساجد، لأنها تنتج الإرهاب وتحضّ عليه، وما أدركوا أن "السياسة" هي السبب، وهي التي أنتجت الإرهاب، وصنعته، وأمدّته بالسلاح، وأن الدول التي تصنع السلاح أعطت ما يكفي لنشر الإرهاب في كل مكان.
طالب شيخ دين معروف بحظر تدريس الدين في المدارس، وتقليص عدد المساجد: "يكفي مسجد واحد لكل مليون مسلم"، وجاراه مفكر عربي في "أن الحضارة أصبحت في خطر، وأن "الهمجية الإسلامية" لم تكتف بما فعلته في بلدانها، وإنما بدأت تطرق أبواب العالم المتحضر"، وفي أحدث محاولةٍ لجلد الذات، أقرّ ثالث: "نحن شركاء في الجريمة".
بعيداً عن النفاق العربي، قال مرشح الرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، "المساجد مصدر الكراهية، وهي كراهية متأصلة في معتقدات المسلمين". ردّت صبا أحمد من التحالف الجمهوري المسلم: "لن نطالب بإقفال الكنائس، إذا ارتكب واحد أو اثنان من مرتاديها فعلاً شريراً". أغلب الظن أن السفراء العرب في واشنطن لم يسمعوا هذا الحوار، لأنهم ليسوا في وارد الاهتمام به. وفي باريس، تبارى متعصبون حمقاء بحرق كتاب الله، ولم نسمع سفيراً عربياً هناك يرفع صوته محتجاً، أو موضحاً على الأقل أن التعصب الأحمق، سواء من هذا الطرف أو ذاك، قد يدفع صاحبه أو خصمه، الأمر سواء، إلى منحىً إرهابي مدان.
وسط هذا الضجيج، ارتفعت أصواتٌ بنبرة إنصاف وعدل، لم تر وزيرة خارجية السويد، مارغوت فالستروم، العالم بعين واحدة، كما بعض ساسة أوروبا، غرّدت: "التطرف الإسلامي سببه عدم توفر الفلسطينيين على مستقبل، بسبب إسرائيل ومشاريعها الاستيطانية". كانت أنجلينا جولي أكثر مروءة من بعض كتابنا وسياسيينا، كتبت: "بينما يتحدّث الجميع عن فرنسا، لا أحد يذكر الهجوم على لبنان، أنا أُصلي للبلدين".
يخبرنا تاريخ ما أهمله التاريخ أن ما حدث في باريس حدث من قبل في غزة والقدس وبغداد وبيروت، وفي أماكن أخرى، وأمسية الجمعة الدموية في باريس تكرار لليال ونهارات دموية في غير ما بقعة من العالم، صنعتها أيد موغلة في الجريمة، ومشبعة بالحقد الأعمى.
"الإنسان مبدع الوحشية"، وليس للوحشية جنسية أو وطن، طوال قرون وأشكالها تتعدد وتتواصل. وبقدر ما نحتمل أن يكون الإنسان جلاداً، فقد يكون ضحية أيضا، وربما يكون جلاداً وضحية في آن، وتطرّف الأفراد ووحشيتهم تتصاعد في موازاة تطرّف الدول ووحشيتها، والذين تخرّجوا من سجن بوكا الذي أنشأه الأميركيون في العراق، وضم يوماً أربعة وعشرين ألف سجين، شكلوا أولى خلايا "داعش"، وأشدها وحشية. يبقى أن نعرف أن تطرف داعش وبشاعة جرائمه هو وجه الحقيقة الأول، لكنه ليس الأخير، هناك وجوه أخرى عرفها الفلسطينيون قرناً، وعاشها العراقيون، خصوصاً في غزو الأميركيين بلادهم، وأدركها غيرهم واختبروها.
المطلوب، إذن، رؤية ما حدث في باريس، وقبله في بيروت، وبعده في باماكو، وما يحدث على مدار الساعة في العراق وفلسطين وسورية، بعينين مجرّدتين عن الهوى، وعبر موقف ينصف الموتى، ويقيم العدل بين الأحياء، ولا يضع المكان، أو الزمان، أو الجنسية شرطاً. وعلى العالم أن يقرّ بأننا، نحن الذين قدّر أن نسكن الأرض من المحيط إلى الخليج، أو نساكن شعوبا أخرى، بحكم وجودنا في المنافي، لسنا وحدنا السبب في طغيان هذا الشر في العالم، ومسؤولية وقف التوحش الماثل مشتركة، وشاملة، وبقدر ما عرف الإنسان مجرداً على أنه مبدع الوحشية، وناشر الكراهية، فإنه أيضاً يمكن أن يكون مبدع السلام والأمن والأمان، وناشر المحبة والخير والطمأنينة.
وفي المآل الأخير، إن أراد العالم أن يكون منصفاً معنا، فليقر بأننا ضحايا أيضاً.




583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"