"بين الجنّة والأرض"، الروائي الطويل الثالث للفلسطينية نجوى نجّار، بعد "المرّ والرمّان" (2009) و"عيون الحرامية" (2014)، عُرض للمرة الأولى في الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، حيث نال "جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو".
يقوم الفيلم برحلة في السيارة من الضفّة الغربيّة إلى الأراضي المحتلة، عابراً قرى وبلدات، بحثاً عن هوية وحكايات وتفاصيل فردية. محور الحكاية تامر وسلمى، زوجان يحصلان على إذن بالدخول إلى إسرائيل لتقديم أوراق طلاقهما في المحكمة في الناصرة. إلاّ أنّ تامر يُفاجأ باكتشافه سرّ عائلي، يحمله في النهاية إلى إعادة النظر في كلّ شيء.
عن الخلفيات الإنسانية والتاريخية لفيلمٍ كهذا، وعن ظروف التصوير في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، أجرت "العربي الجديد" هذا الحوار مع نجوى نجّار.
"بين الجنّة والأرض"، فيلمكِ الروائي الطويل الثالث، عُرض في المسابقة الرسمية لـ"مهرجان القاهرة السينمائي". إنّه العرض العالميّ الأول له.
أنهيتُ الفيلم قبل أسبوعين ونصف الأسبوع من العرض في مهرجان القاهرة. تُسعدني المشاركة في هذه التظاهرة السينمائية. الفيلم يروي قصّة حبّ وطلاق في الضفّة الغربية، بطلاها شابة فلسطينية من الناصرة وشاب استُشهد والده في لبنان، فعاد الشاب إلى الضفّة. هذه المرّة الأولى التي استحصلا فيها على تصريح دخول إلى فلسطين التاريخية. قرّرا الطلاق، وذهبا إلى المحكمة من أجله. اكتشافهما أنّ هناك ورقة ناقصة، كان بمثابة مسوّغ للقيام برحلة في فلسطين التاريخية كلّها.
أخبريني عن لحظة الإلهام، كيف راودتكِ؟
كنتُ وأصدقاء في أحد المحال القديمة في حيفا، فسألني صاحبه عن مهنتي. أخبرته بأنّي مخرجة سينمائية، فإذا به يحدّثني عن ابنه الحاصل على منحة سينمائية إلى لندن، لكنه يرفض الذهاب. حين استفسرتُ عن السبب، أجاب أنّه من حرّاس قرية إيكريت، التي تبتعد ثلاثة كيلومترات من الحدود اللبنانية، حيث كانت محاولة محو القرى العربية كلّها داخل هذا الشريط.
أدهشني هذا الاكتشاف. كفلسطينية أعيش في القدس المحتلة، لم أكن أعرف شيئاً عن قرية تحمل هذا الاسم. وجدتُ نفسي أستقلّ سيارتي وأذهب من رام الله إلى جنين فالناصرة، بحثاً عن هذه القرية، في جولة استغرقت ساعات طويلة. أكملتُ إلى الحدود اللبنانية للوصول إلى إيكريت، ولم أجدها. وبينما أسير معه، لمح هاني صليباً يرتفع على كنيسة، ترتفع بدورها على رأس تلة في مكان مغلق. نحو عشرين شاباً كانوا داخلها. تحدّثنا إليهم بالعربية، فشعروا بالطمأنينة. أخبرونا قصّة إيكريت. هكذا انطلق مشروع "بين الجنّة والأرض".
في البداية، لم أشعر أنّ هناك رواية واضحة. لكن، بعدما هدأ روعي، بدأتُ أعي الرسالة التي يحملها اكتشافي. رحتُ أزور إيكريت أكثر من مرّة، والتقيتُ أناساً يعيشون تحت الاحتلال، من فلسطينيين وسوريين. هكذا قرّرتُ أنْ تكون الرحلة من خلال عيني سلمى وتامر، والمعاناة التي يمرّان بها. فهما عاشا قصّة حبّ، انتهت بانفصال أحدهما عن الآخر.
عام 1948، قال الجيش الإسرائيلي لسكّان إيكريت: "اتركوا بيوتكم أسبوعين ثم عودوا". بعد مضي الأسبوعين، رفضوا السماح لهم بالعودة. قاضوهم وكسبوا الدعوى. ليلة عيد الميلاد، 24 ديسمبر/ كانون الأول، عادوا إلى القرية، وعلت التراتيل، وعمّت البهجة. مع عودتهم، هدم الجيش بيوتهم. سمعتُ هذه القصّة، أنا التي أعيش في فلسطين، لا في الداخل، فعلاقاتي هناك قليلة. لمحتُ، عبر أصدقاء مقرّبين من الناصرة، محاولات "تطليقنا" من بعضنا البعض. بعد عام 1948، تشرّد الفلسطينيون في كلّ مكان، من لبنان إلى الأردن. لم يكن هذا قرارنا، ولم نختر هذا المصير. زُججنا في مواقف عديدة. كانت هذه رحلتي للتعرّف إلى فلسطينيي الداخل ممن أُرغِموا على حمل جواز سفر إسرائيلي فيما هويتهم عربية. أدركتُ كم أنّهم منسيّون. الأمر عينه بالنسبة إلى السوريين في الجولان المحتلّ. آلمني المشهد وألهمني. بالإضافة إلى أنّي أحبُّ التحدث عن الحبّ، فكانت قصّة الفيلم
لا، على العكس. أعيش في فلسطين في ظروف صعبة، لكنّي أستطيع التحرّك. أتألّم كلّ يوم بينما أشاهد ما يجري في غزّة. الحواجز. الانتظار. الخوف على الأطفال. أمام هول ما يجري، كيف نحمي إنسانيتنا؟ النجاة الوحيدة هي الحبّ. هذا ما يملكه الفلسطيني. قصّة الحبّ في الفيلم هي الجوهر. ثنائية شابين في الثلاثينيات من العمر، يختلقان سُبلاً للإبقاء على الحبّ. لم يستطيعا الاستمرار معاً، فكلّ واحد منهما موضوعٌ في مكانٍ رغماً عنه، وموضعه لا يشبه موضع الآخر. لم نستطع أن نكبُر، فنكون كاللبنانيين مثلاً. أنتم لديكم أرضكم وبيوتكم ووطنكم رغم الظروف. تستطيعون البقاء. نحن لا نملك حتى البقاء في مكان. ظروف مماثلة تُرهِق العلاقات الإنسانية. هذا الشعور الأهم بالنسبة إليّ، فقررتُ تجسيده. لو أردتُ الحديث عن إيكريت وقراءتها تاريخياً، لاخترتُ الفيلم الوثائقيّ. قصّة الحبّ هي روح الفيلم.
هناك حوارات كثيرة وتبادل أفكار وآراء مع الكاراكتيرات. وجدتُ شيئاً من الخطاب المباشر، فلِمَ هذا الاتجاه؟
لكلّ نظرته إلى الفيلم، ولكَ نظرتكَ. لا بدّ من بعض المُباشرة، وهذا ليس خطاباً. يجول الفيلم في دول غربيّة، ومن البديهيّ أن يحتوي على معلومات تُسهّل فهم أجوائه. يُفضّل الغربُ المباشرةَ تسهيلاً لتلقّي الفكرة، فأردتُ الفيلم أن يتحدّث لغتين. هناك مسائل يفهمها العربي، ربما لا يفهمها سواه. لا مشكلة إذاً، طالما أنّي لم أفرّط في أخبار قصّة إيكريت بتفاصيلها، ولا بتفاصيل قصّة والد تامر الذي استُشهد في لبنان، وسلسلة الاغتيالات، ولا بقصص الأولاد واليهود العرب الذين استولوا على أماكننا عام 1948. هناك 750 ألف فلسطينيّ أُرغِموا على ترك أرضهم. كان لا بدّ من جعل الغرب يفهم. ومَن أراد المزيد، فليبحث.
لفتتني شخصية المرأة اليهودية. أي اختزالات وأبعاد واستعارات تحتويها هذه الشخصية؟
دعني أبدأ من قصّة سلمى. إنّها امرأة تحمل إرثاً تاريخياً. حين تزوّجت، تراءى لها أنها ستجد في تامر أحلامها. أردتُ شخصية قادرة على الجمع. المرأة الفلسطينية صاحبة موقف مهمّ. فكّرتُ خارج القالب التقليديّ، فلم يقع الطلاق بسبب عنف جسديّ، وإلّا لاتّخذ الفيلم صدى مختلفاً. أحياناً، أسباب الطلاق تكون عاطفية. للمرأة الحقّ بالكلام والتعبير عن موقف. صمّمتُ على تصوير المرأة قويّة. المسألة هنا هي البحث عن الهوية. كيف نجدها في زخم الوضع الصعب داخل فلسطين والمنطقة العربية؟ هنا الإشكالية.
بالعودة إلى الأمّ اليهودية، هناك نحو 8000 طفل أتوا من اليمن والمغرب والعراق إلى مخيمات ومستشفيات في فلسطين. لدى سؤال عائلاتهم عنهم، كان الجواب بأنّهم ماتوا جميعاً. هُجِّر هذا العدد وأُعطي إلى اليهود الأوروبيين، لينشأوا نشأة "البيض". العنصرية الإسرائيلية ليست موجهة ضدّ المسيحيّ أو المسلم، هي ضدّ أي عربي. ينظرون إلينا على أنّنا من النوع المتوحّش. لسنا بشراً أو شعوباً. قرأتُ قصصاً آلمني فيها حجم العنصرية المحشوّة في كلّ زاوية يوجد فيها عربيّ. قدّمتُ شخصية يهودية عربية، من عمق هذا الواقع. أذكر أنّ أمي أخبرتني عن خيّاطتها اليهودية. لفتتني هذه العلاقات، فأجريتُ بحوثاً في الناصرة ومع الحزب الشيوعي هناك. كانت هناك علاقات حبّ ونضال مشترك. ليس ضرورياً أن يدلّك دينك وحده إلى الصحّ والخطأ. بعض اللحظات الإنسانية تتجاوز الأديان. الأم اليهودية كانت جزءاً من مسيرة البحث عن الهوية. في النهاية، نخوض صراع هويات.
كيف جرى التصوير، وأين؟
تمّ التقاط المشاهد على امتداد 24 يوماً. صوّرنا في أريحا والضفّة ورام الله وإيكريت والناصرة وحيفا ورأس الناطورة. بذلنا جهداً كبيراً كي يكون طاقم الفيلم مختلطاً، من مبدأ المحافظة على الوحدة. كان مهمّا أنْ نكون "يداً واحدة"، ونقدّم فيلماً يروي حكايتنا كفلسطينيين. كانت هناك معابر عديدة ينبغي المرور منها، رغم أنّه كان لدينا وقت معين وموازنة محددة. المشكلات كانت كثيرة، منها اعتقال أربعة من طاقم الفيلم على أيدي جنود الاحتلال، رغم امتلاكنا التصاريح اللازمة. حتى مساعدة الإنتاج سُجنت عندما حاولت إخراجهم من المعتقل. رأس الناطورة منطقة تاريخية، يتطلب التصوير فيها تصريحات. كنّا ضحية ألاعيب كثيرة من قبل الاحتلال. التصوير في فلسطين معاناة، لكننّا مصروّن على الحياة.