نتنياهو.. قيادة إسرائيل بمرجعيات التطرّف الأقصى الأولى
من غير المعروف حتى الآن ما سيسفر عنه التحقيق الجنائي الذي تجريه الشرطة الإسرائيلية بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو. ويبدو أن شبهات الفساد ضده جدية، وفيها أوجه شبه بمخالفات الفساد التي ارتكبها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إيهود أولمرت. ولكن، على الرغم من ذلك، من غير المتوقع أن يقود هذا التحقيق إلى توجيه لائحة اتهام ضد نتنياهو، فتوجيه لائحة اتهام ضده يرغمه، فور اتخاذ قرارٍ تقديمها بشكل رسمي، إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة. ومن غير المتوقع أن يوجه المستشار القضائي للحكومة ورئيس الادعاء العام في الوقت نفسه، أفيحاي مندلبليت، المعروف بولائه الشديد لنتنياهو، لائحة اتهام ضده، إذا لم توجد أدلة دامغة لا تتيح المجال لمندلبليت التملص منها بأي شكل. وكان نتنياهو قد عين الأخير مستشارا قضائيا للحكومة، مباشرة بعد شغله منصب سكرتير الحكومة، وهو ما أثار، في حينه، انتقاداتٍ شديدة ترتبط بولاء مندلبليت الشديد لنتنياهو، الأمر الذي قد يؤثر على عمله ونزاهته في حال معالجته قضايا جنائية تخص نتنياهو.
لا يعرف، حتى الآن، إذا ما ألحقت شبهات الفساد ضرراً سياسياً بنتنياهو، وما مداه. ولكن، يمكن القول إنه إذا لم توجه ضده لائحة اتهام، علماً أن توجيهها مستبعد جداً وفق المعطيات الحالية، فمن المتوقع أن يستمر نتنياهو في الحكم سنوات طويلة.
وتلقي هذه المقالة الضوء على سياسة نتنياهو ودوره في قيادة إسرائيل نحو مزيد من التطرّف والعدوانية، من المتوقع أن تزداد بعد تولي رئيس الولايات المتحدة المنتخب، دونالد ترامب، منصبه في العشرين من يناير/ كانون الثاني الجاري. وتطل على البيئة اليمينية والمتطرّفة التي نشأ بها نتنياهو، وأثّرت على تكوينه الفكري والسياسي، لا سيما تأثره الشديد بمواقف والده بن تسيون وجده الراب ميليكوفسكي الذي ورث عنه نتنياهو مهارة الخطابة وفن الديماغوغيا، وبمنطلقاتهما وتجربتيهما. وتعرض المقالة الأجواء الفاشية التي نشط فيها وتفاعل معها والده بن تسيون، لا سيما مع صديقه الحميم الفاشي، آبا أحيمئير، رئيس "عصبة الأشداء" الفاشية.
رأس بنيامين نتنياهو أربع حكومات إسرائيلية، كانت الثلاث الأخيرة متتالية منذ 2009،
وامتدت حكومته الأولى من 1996- 1999. منذ أن تبوأ منصبه في 2009، تسارع انزياح المجتمع الإسرائيلي، في قيمه ومواقفه السياسية والاجتماعية، نحو اليمين واليمين المتطرّف الفاشي، فقد بذل نتنياهو وحزب الليكود وقادة "المعسكر القومي" جهداً منهجياً لفرض هيمنة الفكر السياسي اليميني المتطرف واليمين الفاشي على الحيز العام في إسرائيل في مختلف المجالات، وليس فقط في القضية الفلسطينية والموقف من العرب. وبفضل هذا الجهد وعوامل أخرى، ازداد تفشّي الفاشية في السنوات الأخيرة في صفوف المعسكر القومي الذي يقوده نتنياهو، وفي صفوف فئات أخرى في المجتمع الإسرائيلي، وتعاظمت قوة اليمين الفاشي في صفوف أعضاء الأحزاب اليمينية الإسرائيلية وأنصاره، لا سيما في صفوف حزبي الليكود والبيت اليهودي الذي يقوده نفتالي بنيت وحزب إسرائيل بيتنا الذي يرأسه أفيغدور ليبرمان، وفي صفوف المستوطنين اليهود في الضفة الفلسطينية المحتلة. وفي الوقت نفسه، توسّعت الحركات والجمعيات اليهودية اليمينية والدينية الفاشية، وازداد نفوذها في قطاعات دينية ويمينية واسعة، وتعزّز حضورها في الحيز العام الإسرائيلي، وبات يتم التعامل معها باعتبارها جزءاً أصيلاً في لب الإجماع الصهيوني.
استخلص نتنياهو من تجربة حكومته الأولى، ومن تجارب الحكومات التي شكلها حزب الليكود، منذ وصل التيار التصحيحي، بزعامة مناحم بيغن، لأول مرة إلى الحكم في 1977، أن حصول معسكره على أغلبيةٍ في الكنيست، وتشكيله حكومة يمينية، لا يكفي لتحقيق أهدافه. فوضع نصب عينيه هدف احتلال جميع مواقع القوة في الدولة والمجتمع من "النخب" "المعتدلة"، أو الموالية لليسار الصهيوني، ليحل مريدوه وأنصاره في هذه المواقع مكان النخب التي ترفض رؤيته، أو لا تتماشى معها بما فيه الكفاية. وقد حقّق نتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف إنجازات مهمة، وبنسب متفاوتة، في أغلبية مواقع القوة في إسرائيل، مثل الاقتصاد والمؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن والشرطة ووسائل الإعلام والجهاز القضائي والمحكمة العليا والإدعاء العام والأكاديميا وجهاز التعليم ومضامينه.
دأب نتنياهو على تجديد الصهيونية التصحيحية، بما يتلاءم مع الواقع الذي تعيشه إسرائيل والتحديات الأساسية التي تواجهها، فبلور أيديولوجيةً قوميةً يمينيةً متطرّفة، ممهورة بالموروث الديني اليهودي المتطرف التي تقف ضد القيم الإنسانية العالمية، مثل الحرية والعدالة والمساواة. وفي هذا السياق، عمل ويعمل نتنياهو بكل طاقته، هو و"معسكره القومي"، على إعادة صياغة حدود الديمقراطية في إسرائيل، وإعادة صياغة حدود الإجماع الإسرائيلي، وحدود المعارضة في إسرائيل، بما يتلاءم مع الفرضيات الأساسية لأيديولوجيته اليمينية المتطرّفة.
يعد نتنياهو من أكثر القادة الإسرائيليين قدرةً على التحريض الشعبوي ضد خصومه وأعدائه، لا سيما ضد "اليسار" والعرب. واستعمل نتنياهو هذا التحريض كأنجع الوسائل وأمضاها، ليس
فقط لكسب الصراع على السلطة والبقاء في الحكم، كما فعل في حملاته الإنتخابية، وإنما أيضا لنزع شرعية المعارضة في إسرائيل في قضايا خلافيةٍ في المجتمع الإسرائيلي، كالموقف من الاحتلال. فوفق نتنياهو، لا تكمن مشكلة إسرائيل في الاحتلال والاستيطان والبطش بالشعب الفلسطيني والتنكّر لحقوقه، ولا في القمع القومي والتمييز العنصري ضد العرب الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر، وإنما في وجود "نخب" و"يسار" وأحزاب عربية تعارض أو تنتقد الاحتلال والاستيطان والبطش بالفلسطينيين. فكل معارضة أو نقد للاحتلال الذي لا يقرّ نتنياهو بوجوده أصلاً يضعف إسرائيل، وفق نتنياهو، ويقدم خدمة لأعدائها ولحركة المقاطعة (BDS) التي يعدها نتنياهو خطرا استراتيجيا على إسرائيل.
ولم يكتف نتنياهو و"معسكره القومي" بالتحريض ضد الجمعيات الإسرائيلية التي تقف ضد الاحتلال والاستيطان مثل "سلام الآن" و"بتسيلم" و"يش دين" وضد العرب وأحزابهم السياسية، لا سيما ضد حزب التجمع الوطني الديمقراطي وقادته، وضد مؤسسه المفكر عزمي بشارة، وضد الحركة الإسلامية الشمالية التي أخرجها عن القانون، وزج في السجن رئيسها الشيخ رائد صلاح، بل سنّ الكنيست في العقد الأخير قوانين عنصرية كثيرة ضد العرب، والمعادية للديمقراطية لتضييق الخناق ضد من يعارض الاحتلال والاستيطان وسياسات الحكومة الإسرائيلية العدوانية والعنصرية.
لا يمقت نتنياهو شيئاً أكثر من مقته التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، فهو لا يريد السلام مع الفلسطينيين، وإنما يهدف إلى فرض الاستسلام عليهم. وهو يريد استسلاماً فلسطينياً سياسيا وفكرياً يتخلى عن حقوقهم القومية، وعن روايتهم التاريخية الفلسطينية، ويتبنى الرواية التاريحية الصهيونية. فالتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين يتناقض مع أيديولوجيته الصهيونية المتطرّفة المتمسكة بالاحتلال والاستيطان. فقد رفض نتنياهو اتفاقية أوسلو، وعدّها كارثة بالنسبة لإسرائيل، وفعل كل ما في وسعه لإفشالها، وساهم مساهمةً أساسية في التحريض ضدها، وضد رئيس الحكومة الإسرائيلية حينئذ، يتسحاق رابين، ما استباح دمه وأدى إلى قتله. فأيديولوجيته هي محرّكه في ما يخص مصير المناطق الفلسطينية والعربية المحتلة. صحيح أنه يجيد المناورة والتكتيك في قضايا كثيرة، وصحيح أنه سياسي انتهازي، ولكن صحيح أيضاً أنه يرفض أي تكتيك، كما أثبتت التجربة التي تتناقض مع أيديولوجيته المتمسكة بشدة في استمرار الاحتلال، وفي تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة.
الاستيطان هو المشروع الوحيد
شدّد نتنياهو دوماً على القوة قيمةً عليا، وعلى أهمية القوة العسكرية في تحقيق أهداف إسرائيل السياسية. ويحرص نتنياهو على تعزيز قوة إسرائيل في جميع المجالات، وإبقائها الدولة الأقوى في المنطقة الممتدة من البحر المتوسط إلى باكستان. وما انفكّ نتنياهو يعمل، ليس فقط على استمرار احتكار إسرائيل السلاح النووي، واستمرار تفوقها على جميع دول المنطقة في الأسلحة التقليدية، وإنما أيضا إلى زيادة ترسانتها النووية، وتعزيز قدراتها في "الضربة النووية الثانية" للرفع من مكانتها. ويؤكد نتنياهو أن إسرائيل تمتلك من القوة الفائضة التي تمكّنها من المضي في مشروعها الوحيد في ما يخص القضية الفلسطينية، وهو زيادة الاستيطان اليهودي الكولونيالي في الضفة الفلسطينية وتعزيزه، بما فيها القدس الشرقية المحتلة. وقد قطع نتنياهو شوطاً مهماً في تعزيز الاستيطان منذ توليه السلطة منذ 2009، في ظل ميوعة الموقف العربي والدولي من استفحال الاستيطان واستمرار الاحتلال.
وقد أثار فوز ترامب، برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، البهجة لدى نتنياهو و"معسكره القومي". ولدى قطاعاتٍ واسعةٍ في المجتمع الإسرائيلي، وارتفعت الأصوات في إسرائيل التي نادت إلى الشروع في حملة استيطانية واسعة في الضفة الفلسطينية المحتلة، والقيام بضم ما يطلق عليها منطقة "ج" في الضفة الغربية المحتلة، والتي تزيد عن 62% من مساحة الضفة، أو ضم بعض الكتل الاستيطانية أو جميعها إلى إسرائيل.
وسيسعى نتنياهو إلى التوصل إلى تفاهماتٍ مع إدارة ترامب في أسرع وقت، مستغلا الضعف العربي والانقسام الفلسطيني، من أجل تحقيق جملةٍ من الأهداف، أهمها: الحصول على تسامح
الإدارة الأميركية مع استمرار الاستيطان وزيادة وتيرته في الضفة الفلسطينية المحتلة، ومحاولة جرّ الإدارة الأميركية إلى منح شرعية للاستيطان، وعدم ممارسة أي ضغط على إسرائيل لوقفه أو لإنهاء الاحتلال، وصد أي ضغط دولي على إسرائيل بشأن الاستيطان والاحتلال، بما في ذلك الالتزام باستعمال حق النقض في مجلس الأمن ضد أي قرار يدين إسرائيل، واستصدار موقفٍ من الإدارة الأميركة الذي يؤكد تصريح بوش الإبن أن أي حل بين الفلسطينيين وإسرائيل ينبغي أن يأخذ بالحسبان واقع الكتل الاستيطانية في الضفة الفلسطينية والقدس الشرقية المحتلة، وتغيير الموقف الأميركي من المسجد الأقصى، باتجاه دعم خطوات إسرائيل في تغيير الأمر الواقع فيه، والالتزام بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وممارسة ضغط أميركي على السلطة الفلسطينية، لإرغامها على التوقف عن سعيها إلى تدويل القضية الفلسطينية، والعودة إلى "أسر" المفاوضات الثنائية المباشرة.
خلفية مواقف نتنياهو
تفيد الأدبيات التي عالجت مواقف نتنياهو بأنه تأثر كثيرا بوالده بن تسون وبجده الراب ميليكوفسكي، وبالبيئة اليمينية المتطرفة والفاشية التي نشأ ونشط فيها والده بن تسيون الذي غذّاه منها وحضه على تبني مواقفه. ومن المفيد إلقاء الضوء على هذه الخلفية التي شكلت الحاضنة لتبلور ذهنية نتنياهو.
ولد نتان ميليكوفسكي، جد بنيامين نتنياهو، في الامبراطورية الروسية في العام 1879 لعائلة يهودية محدودة الدخل، وتلقى تعليمه في مدرسة يهودية دينية، وحصل منها على شهادة "راب" عندما كان في الثامنة عشر من عمره. انتمى الراب ميليكوفسكي للتيار الديني الصهيوني، وتبنى فكراً دينياً صهيونيا متطرفا، ونشط في صفوف "أحباء صهيون" في روسيا، وكان خطيباً مفوّها فنظم له "أحباء صهيون" الاجتماعات الكثيرة في طول روسيا وعرضها، لإلقاء الخطابات في تجمعات اليهود في روسيا، لاجتذابهم للحركة الصهيونية، وحضهم على الهجرة إلى فلسطين. وعندما بلغ التاسعة والعشرين عاماً، تزوج نتنان ميليكوفسكي من سارة، ابنة أحد نشطاء "أحباء صهيون" في روسيا. وفي 1920، هاجر هو وزوجته وأولاده إلى فلسطين. وكان له ثمانية أولاد وبنت، وولد اثنان من أولاده في فلسطين.
تقرب الراب ميليكوفسكي إلى التيار الصهيوني التصحيحي في أواخر العشرينيات من القرن الماضي الذي كان يقوده جابوتينسكي، وانحاز إليه في صراعه ضد التيار العمالي الصهيوني الذي كان يقوده ديفيد بن غوريون. وتضامن الراب ميليكوفسكي مع الفاشي آبا أحيمئير الذي اتهم بتدبير اغتيال حاييم آرلوزوروف، رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في 1933. وعلى الرغم من أن التيار الصهيوني العمالي الذي كان يتمتع بأغلبية كبيرة للغاية في أوساط المستوطنين اليهود في فلسطين، اتهم صراحة الحركة التصحيحية الصهيونية بزعامة جابوتينسكي وعصبة الأشداء بقيادة آبا أحيمئير باغتيال أرلوزوروف. وعلى الرغم من أنه عدّ "عصبة الأشداء" مجموعةً فاشيةً متطرّفة، واعتبر أيضا زعيم التيار الصهيوني التصحيحي فلاديمير زئيف جابوتينسكي متطرفاً فاشيا، حيث أطلق عليه بن غوريون كنية "فلاديمير هتلر"؛ فإن الراب نتان ميليكوفسكي لم يتردّد في الانحياز إلى كل من جابوتينسكي وآبا أحيمئير، وقام بخطوتين عبرتا عن مناصرته لهما. فقد زار أولاً آبا أحيمئير، صديق ابنه بن تسيون والد بنيامين نتنياهو، في السجن، مساندا له ومتضامنا معه. وبادر ثانياً بمساعدة ابنه بن تسيون والد نتنياهو إلى إقامة لجنة شعبية بقيادة الراب المتطرّف أفراهام كوك، للدفاع عن المتهمين اليهود المنتمين لعصبة الأشداء بقتل أرلوزوروف. ولم تكن مصادفةً مناداة نتان ميليكوفسكي جد نتنياهو أن يرأس الراب أفراهام كوك هذه اللجنة. فقد كان الراب كوك معروفاً بعنصريته، وبعدائه الشديد للعرب وبمسيائيته المتطرفة، وبدعوته إلى الاستعداد لبناء الهيكل في مكان المسجد الأقصى، وبإقامة الدولة اليهودية في كل أرض فلسطين، تماماً كما كانت تنادي عصبة الأشداء. وقد عدّ الراب أبراهام كوك غير اليهود، وفي مقدمتهم العرب، في مرتبةٍ دون البشر، إذ كتب "إن الفرق بين الروح اليهودية، في جوهرها ورغباتها الداخلية وصفاتها ومواقفها، وروح كل الأغيار بمختلف أنواعهم، هو أكبر وأعمق من الفرق بين روح الإنسان وروح الحيوان".
أجواء فاشية
كان آبا أحيمئير يتبنى علنا الفكر الفاشي، ويعتز به، ويدعو قادة الحركة الصهيونية إلى تبنيه.
وفي سياق تبنيه هذا الفكر والدعوة إليه، نشر مقالات في صحيفة "دوأر هيوم" التي انضم إلى هيئة تحريرها في سبتمبر/ أيلول 1928، تحت عنوان "من سجل فاشي" (مبينكسو شل فاشيستان). وفي العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1928، نشر مقالاً بعد أيام من وصول جابوتينسكي إلى فلسطين، تحت عنوان فرعي "في ما يخص مجيء الدوتشي خاصتنا"، امتدح فيه كثيرا الفاشية الإيطالية وزعيمها الدوتشي موسوليني، دعا فيه اليهود ليس فقط إلى تبنّي الفكر الفاشي، وإنما أيضا الاقتداء بإيطاليا الفاشية، وتأييد "الدوتشي العبري"، زئيف جابوتينسكي بإخلاص وتفانٍ.
ادّعى أحيمئير، في مقاله، أن سبب انحطاط مكانة اليهود في العالم، حينئذ، هو اقتصار تقديرهم القادة الروحيين الدينيين والعلمانيين، وعدم تقديرهم القادة السياسيين والعسكريين. وحاجج بأن الضرورة تقتضي الإيمان، ليس فقط بإله غير مرئي، وليس فقط احترام الأنبياء اليهود الذين ماتوا منذ فترة طويلة، وإنما تقدير القائد الحي وتعظيمه إلى أعلى درجة ممكنة، فعظمة القائد تنبع ليس فقط من ميزاته الموضوعية، وإنما أيضاً من التقدير والإعجاب الذي يحظى به من شعبه. ومن ناحية أخرى، يرفع تعظيم الشعب قائده من مكانة الشعب نفسه في نظر العالم. وأضاف أحيمئير إن إيمان الشعب الإيطالي بقائده الدوتشي موسوليني، وتبجيله له، ساهم في ازدهار إيطاليا ورفع مكانتها في العالم.
أوضح أحيمئير أنه يتوجب ألا تنكسر روح جابوتينسكي، بسبب قلة عدد أنصاره بين أوساط اليهود في فلسطين، وتأييد غالبيتهم للتيار الصهيوني العمالي، فسنة الحياة أن تحكم الأقلية الأغلبية بقوة السلاح أو بقوة الإيمان. وكما أسس هرتزل الصهيونية السياسية، فإن"القائد العظيم" جابوتينسكي هو الذي سيحققها على أرض الواقع. وما على "الدوتشي" جابوتينسكي سوى تنظيم جميع أنصاره المخلصين له وإقامة "الحرس القومي". أما أنصاره فعليهم السير وراء الدوتشي جابوتينسكي، وإطاعته وتنفيذ أوامره.
وكانت العلاقات بين الحركة الصهيونية والفاشية الإيطالية قد بدأت عشية تبوّء الحزب الفاشي الإيطالي، بزعامة بنيتو موسولوني، السلطة في إيطاليا في 1922. فبناء على تكليف من الإدارة الصهيونية، أرسل زئيف جابوتينسكي، عضو الإدارة الصهيونية حينئذ، رسالًة إلى موسوليني، أكّد فيها على تماثل المصالح بين الحزب الفاشي الإيطالي والحركة الصهيونية. وبعد تسلم الحزب الفاشي مقاليد الحكم في إيطاليا، توطّدت العلاقات بين الحركة الصهيونية التصحيحية وإيطاليا الفاشية، ووصلت إلى درجة عالية من التفاهم والتنسيق، كان من أبزها إقامة إيطاليا الفاشية مدرسة بحريةً بالقرب من روما، لتدريب (وتدريس) أعضاء حركة "بيتار" التابعة للحركة التصحيحية، التي خرّجت بين السنوات 1934-1938 نحو مئتين من أعضاء الحركة برتب مختلفة في القيادة البحرية.
ولم تنفرد على أي حال الحركة التصحيحية الصهيونية في إقامة علاقاتٍ مع إيطاليا الفاشية، فقد أجرى رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، حاييم وايزمان، لقاءات مع موسوليني، أسفرت عن اتفاق سري بين الحركة الصهيونية وإيطاليا الفاشية في 1934، تعهد الأخير بموجبه بدعم مطامح الصهيونية في فلسطين، وتسهيل مرور اليهود عن طريق إيطاليا إلى فلسطين، في حين التزم وايزمان بمساعدة إيطاليا في تطوير صناعاتها الكيماوية. أما الحركة العمالية الصهيونية فقد عقدت اتفاقية "النقل" (هعفراه) مع ألمانيا النازية في العام 1933.
بيد أن أخطر المحاولات للتحالف مع ألمانيا النازية جاءت من أفراهام شتيرن، الملقب باسمه
الحركي "يئير"، قائد منظمة "المحاربون من أجل حرية أرض إسرائيل" (ليحي) الإرهابية الفاشية، والذي أطلق بنيامين نتنياهو على ابنه البكر اسم يئير تيمناً به وتخليداً له. ومما يتوجب الإشارة إليه أن شتيرن تمتع حينئذ بشعبية كبيرة للغاية بين أوساط أنصاره من اليمين الفاشي اليهودي، فاقت الشعبية التي تمتع بها أي قائد صهيوني آخر من جمهور أنصاره. ومن الغريب أن تزداد وتتوسع شعبيته بين أوساط اليمين واليمين الفاشي الإسرائيلي، بعد عقود طويلة من مصرعه، ومن انتهاء وجود منظمته العسكرية الإرهابية، على الرغم من سعيه إلى التحالف مع ألمانيا النازية تحت تبرير مقولة "التحالف مع الجزار ضد العدو".
فقد بذلت منظمة ليحي، بقيادة أفراهام شتيرن، جهودا حثيثة للاتصال مع ألمانيا النازية، مع بدء الحرب العالمية الثانية، من أجل التحالف معها. ففي أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، طوّر شتيرن مقولة "التحالف مع الجزار ضد العدو"، فقد عدّ بريطانيا، صاحبة وعد بلفور وداعمة المشروع الصهيوني في فلسطين وحاميته، حكماً أجنبياً في فلسطين و"عدواً"، لأنها تحدد عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين بنسبة معينة. وكان يئير يعتقد أن ألمانيا النازية ستنتصر في الحرب العالمية. ولذلك، من مصلحة الحركة الصهيونية التحالف معها. ففي أواخر سنة 1940، أرسل أفراهام شتيرن أحد نشيطي منظمته، ويدعى نفتالي لوبينسكي، إلى بيروت، إبّان حكومة فيشي، للاجتماع مع أوتوفون هنتغ، ضابط الاستخبارات النازي. وعرض لوبينسكي في الاجتماع التحالف بين منظمة ليحي وألمانيا النازية، تقدّم وفقه ليحي الدعم لألمانيا النازية في مقابل تعهد ألمانيا بدعم قيام دولة يهودية في فلسطين. أعرب الضابط النازي عن رأيه بأن الحكومة الألمانية التي تتخذ موقفاً متطرفاً من اليهود لن تقبل بهذا الاقتراح، بيد أنه أشار إلى إمكانية تأييد ألمانيا النازية إقامة دولة يهودية في مدغشقر. ولم يقنط أفراهام شتيرن من رد الضابط النازي الفاتر، فأرسل مذكرةً من صفحتين باسم منظمته إلى الحكومة الألمانية، عن طريق ضابط الاستخبارات النازي هنتغ المقيم حينئذ في بيروت، اقترح فيها التحالف بين منظمته وألمانيا النازية المستند إلى تهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين، لإقامة دولةٍ يهودية فيها في مقابل تقديم منظمته الدعم إلى ألمانيا في مختلف الميادين السياسية والعسكرية والاستخبارية.
الأب بن تسيون ميليكوفسكي
ولد بن تسيون ميليكوفسكي في سنة 1910 في وارسو، وتأثر بوالده وبفكر غلاة الحد الأقصى في الحركة الصهيونية التصحيحية في أثناء دراسته في الجامعة العبرية في القدس التي التحق بها في 1928. وشكلت السنوات التي قضاها في الجامعة العبرية مرحلةً تأسيسية في بلورة مواقف بن تسيون وآرائه، إذ انخرط في نشاطات جماعات الحد الأقصى في الحركة التصحيحية، وتقرّب من "عصبة الأشداء" الفاشية، وأصبح صديقا حميما لرئيسها آبا أحيمئير.
شكل نشاط جماعات الحد الأقصى في الحركة الصهيونية التصحيحية في داخل الجامعة العبرية في القدس وخارجها، دفيئة للتطرّف المعادي للعرب الفلسطينيين، ولحقوقهم والمنادي بطردهم. وكان هؤلاء يمقتون بشدة مجرد كلمتي "العرب" و"السلام"، ويستشيطون غضباً، ويزدادون
عدوانيةً تجاه كل من يتحدّث، أو يخطر بباله، إمكانية تحقيق السلام مع العرب، عن طريق التفاهم معهم لتحقيق أهداف الصهيونية أو بعضها، حتى وإن كان ذلك من باب المناورة. وكان من أشهر النشاطات التي شارك فيها بن تسيون، والتي كان لها الأثر الأكبر في الرفع من مكانته في نظر غلاة الحد الأقصى الصهيونيين، تفجير حفل افتتاح "الكاتدرائية للسلام الدولي" في الجامعة العبرية في القدس في فبراير/ شباط 1932. فقد قرّر نشطاء التيار التصحيحي في الجامعة وخارجها، وفي مقدمتهم "عصبة الأشداء" تفجير المحاضرة المركزية في حفل الافتتاح التي ألقاها نورمان بنطوفيتش، السكرتير القانوني لسلطات الانتداب البريطاني، والذي كان مقربا من حركة "بريت شلوم" (ميثاق السلام) الصهيونية المعتدلة التي كانت تنادي بدولةٍ مشتركة للمستوطنين اليهود والعرب الفلسطينيين.
ولعب بن تسيون دورا مهماً، إلى جانب صديقه الحميم آبا أحيمئير، في تفجير هذا الاجتماع الذي شارك فيه رئيس الجامعة ماغنس وقادة الحركة الصهيونية، كان من بينهم رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية حاييم أرلوزوروف ومناحم أوسيشكين ومئير ديزنغوف. فقد كتب بن تسيون المنشورات التي دعت إلى المظاهرة، وهاجمت بشدة بنطوفيتش وقادة التيار الصهيوني العمالي، واتهمتهم بالتفريط بالصهيونية. إلى جانب ذلك، قدم بن تسيون مساهمةً خاصةً في إفشال هذا الاجتماع، فقد طلب من شقيقه أليشع تحضير قنابل تخرج رائحة كريهة عند تفجيرها، واستجاب شقيقه لطلبه. وفي أثناء محاضرة بنطوفيتش، وعند ارتفاع صراخ الطلاب اليمينيين المعزّزين بنشطاء من عصبة الأشداء، بقيادة رئيسها آبا أحيمئير، ألقى أحدهم القنبلة التي تخرج الروائح الكريهة إلى المنصة، ما أدى إلى تفجير هذا الاجتماع، وحدوث مشاجرات. واضطرت الجامعة إلى استدعاء الشرطة البريطانية إلى داخل الحرم الجامعي، واعتقلت 15 من المشاغبين اليمينيين المتطرفين.
استمر بن تسيون في دراسته ونشاطه في الحركة التصحيحية، وساهم في 1933 في تحرير مجلة بيتار الشهرية التي صدرت عاماً ونيف، ثم ساهم في العامين التاليين في تحرير صحيفة هيردن، لسان حال الحركة التصحيحية. وكتب في النشرتين في تلك الفترة، إلى جانب بن تسيون، عدد من غلاة الحد الأقصى في الحركة التصحيحية الصهيونية الذين امتدحوا التيار التصحيحي الصهيوني والفاشية في إيطاليا، كان منم صديقه يوسف شختمان الذي كان مقرباً من جابوتينسكي.
نادى يوسف شختمان بطرد الشعب العربي الفلسطيني من فلسطين، وكتب كتباً ودراسات عديدة عن تجارب تبادل السكان في العالم، لكي يصوغ طرد الفلسطينيين من وطنهم. وفي 1965، نشر كتابه بالإنجليزية "المفتي والفهرر"، في سياق استمرار تحريضه ضد الشعب الفلسطيني، وتشويه سمعته والتنكر لحقوقه. ويعج الكتاب الذي أهمله النقاد بالأكاذيب والإفتراءات، كان من بينها ادّعاؤه بأن قرار التصفية الجسدية ليهود أوروبا لم يكن مصادفةً، وإنما حدث بتأثير المفتي الحاج أمين الحسيني عند وصوله إلى ألمانيا في تلك الفترة. وقد شكلت هذه الافتراءات التي اخترعها شختمان صديق بن تسيون، والد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خلفية لإفتراء نتنياهو بأن فكرة إبادة اليهود في أوروبا جاءت من المفتي الحاج أمين الحسيني، وليس من هتلر، ما أثار غضبا واسعا، لا سيما من قادة ألمانيا، لأن نتنياهو برأ هتلر من إبادة اليهود.
وظل بن تسيون مع جماعة الحد الأقصى في الحركة التصحيحية. وفي 1939، سافر إلى لندن ومكث فيها فترة قصيرة، ثم سافر إلى الولايات المتحدة. وفي فبراير/ شباط 1940، التقى بن في الولايات المتحدة مع رئيس الحركة التصحيحية، زئيف جابوتينسكي، الذي كان متعباً، ويعاني من المرض. ومكث بن تسيون فترة قصيرة برفقة جابوتينسكي الذي توفي في الرابع من أغسطس/ آب، ما مكّنه من طرح نفسه أنه كان سكرتيراً لجابوتينسكي.
وحاول بن تسيون عند عودته من الولايات المتحدة إلى إسرائيل في العام 1949 الإنخراط في النشاط السياسي في إسرائيل، فاجتمع مع مناحيم بيغن، رئيس حزب حيروت وقائد التيار التصحيحي الصهيوني، والذي كان في أقصى يمين الخارطة الحزبية الإسرائيلية. وبعد استماع بيغن إلى طروحات بن تسيون السياسية، تيقن أن الأخير يتبنى فكراً سياسياً في غاية من التطرّف، ما حدا به إلى عدم منحه مكاناً في قيادة حزب حيروت.
قضى بن تسيون عمره، والذي بلغ قرناً وعامين، متمسكاً بفكره السياسي المتطرّف للغاية وبمواقف الحد الأقصى التي تبناها في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. وفي مقابلة له في 1998 أكد بن تسيون استمرار تمسكه بهدف إقامة الدولة اليهودية في كامل أرض فلسطين وشرق الأردن ومناطق عربية واسعة أخرى، وبنفي وجود الشعب العربي الفلسطيني، وادّعى أنه جرى خلق الشعب العربي الفلسطيني، من أجل تدمير إسرائيل، وأن العرب الفلسطينيون لا يحق لهم دولة ولا حكما ذاتياً. وأفاد بأنه كان ينبغي أن تضم إسرائيل بعد حرب 1967 مباشرة جميع الأراضي العربية التي احتلتها، بما في ذلك شبه جزيرة سيناء. ووقف بشدّة ضد اتفاق أوسلو وعده خطراً على وجود إسرائيل، وأنه كان شركا نصبه العرب والأوروبيون لإسرائيل.