والواقع أنّ الدورة الشتويّة للكنيست، والتي تبدأ جلساتها الأولى، في السابع والعشرين من الشهر الحالي، ببيان سياسي يلقيه نتنياهو، على أن يردّ عليه زعيم المعارضة، ستكون دورة القضايا الداخليّة بامتياز، والحرب على الميزانيّة العامة وإقرارها، على الرغم من الضجيج الذي سيصاحب مداولاتها وعشرات آلاف الاعتراضات على بنودها المختلفة، والتي أعدّها نواب المعارضة من جهة (وضع عضو الكنيست، إيتسيك شمولي، 10 آلاف اعتراض)، وأخرى سيقدمها نواب من الائتلاف الحكومي لجهة زيادة حصة ناخبيهم، خصوصاً حزب "البيت اليهودي"، الذي يسيطر على أهم لجنة برلمانية، هي لجنة المالية ويرأسها نيسان سلوميانسكي.
وما عدا "الحرب المحسومة" أصلاً على الميزانية، بعد التوافق بين نتنياهو ووزير ماليته، يئير لبيد، على إعطاء وزارة الأمن مطلبها الأساسي، بزيادة ميزانيتها للعام المقبل، لتصل إلى (57 مليار شيكل)، ورصد (1.7 مليار شيكل) لمكافحة الفقر(مع أن اللجنة المعنية بالموضوع طلبت رصد 4 مليارات على الأقل)، فإن نتنياهو سيكون في هذه الدورة في أحسن حال، إذ لا يُهدّد مستقبله السياسي ولا مستقبل حكومته، أي خطر حقيقي من شركائه الحاليين بإسقاط الحكومة، لأنهم ببساطة لا يملكون بديلاً له، ولأنّهم، وهذا هو الأهم، يخشون تراجع قوتهم النيابية في حال إسقاط الحكومة الحالية، وخصوصاً كتلة يئير لبيد، وحزب وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان.
ويعني هذا أن نتنياهو سينشغل بالأساس بقضايا حزبه الداخلية، وتبعات سعيه إلى تقديم موعد الانتخابات التمهيدية لانتخابه مجدداً مرشحاً "لليكود"، لرئاسة الحكومة في الانتخابات المقبلة، التي قد يتم تقديمها للعام 2016، وفق ما تؤكده دلالات مختلفة، أهمّها التوافق الذي يجمعه أخيراً مع الوزير يسرائيل كاتس، الذي يحتفظ بأكبر مجموعة منتسبين في "الليكود".
ويدفع اطمئنان نتنياهو إلى استقرار ائتلافه الحكومي في العام الحالي والمقبل، واستمرار اختياره بحسب الاستطلاعات الداخلية في إسرائيل، على أنّه أكثر شخص مناسب لرئاسة الحكومة، من بين المطروحين على الساحة الإسرائيلية، إلى التشدّد عملياً في مواقفه السياسية المعلنة، بالتوجه نحو الحلول الأمنيّة قبل كل شيء، واختبار قدرة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على ضبط الأمور في قطاع غزة، وانهاكه في القطاع في مواجهة "حماس"، مع تعطيل متواصل لعملية إعادة إعمار غزة.
ويستند نتنياهو في تحرّكه، والأصحّ جموده، في المربع الأمني ذاته، ورفضه أيّ توجّه لمفاوضات مع السلطة الفلسطينية، إلى ثلاثة عوامل أساسية: أولاً تصريحات عباس الأخيرة، التي أعلن فيها أنّه أبلغ وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بأنّه سيحول من دون أي انتفاضة أو "أعمال عنف في الضفّة الغربيّة حتى نهاية الشهر الحالي". ويعني ذلك وفق نتنياهو استمرار الستاتيكو القائم، من دون ترك السلطة الفلسطينية لقداسة التنسيق الأمني في الضفّة. وتجلى ذلك في اليومين الماضيين، باعتراض وقمع تظاهرات "حماس" في الخليل، وعدم السماح بأي تظاهرات احتجاجية على ما يحدث في المسجد الأقصى.
أما العامل الثاني، فهو إعلان الولايات المتحدة أكثر من مرّة، أنّه في حال أصرّ الفلسطينيون على التوجّه إلى مجلس الأمن الدولي، فإنّها لن تتردّد في استخدام حق النقض "الفيتو"، ضدّ أي مقترح للإعلان عن فلسطين دولة تحت الاحتلال، واستصدار قرار بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وينضم إلى هذا الإعلان ما تتوقّعه المحافل الإسرائيليّة والإدارة الأميركية لناحية إلحاق هزيمة نكراء بالديموقراطيين في انتخابات الكونغرس، التي من المقرر أن تجرى مطلع الشهر المقبل، ما يعني إبقاء إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ضعيفة، غير قادرة على ممارسة ضغوط على حكومة إسرائيل، وهو ما بدت بشائره في إعلان الصحف الإسرائيلية مطلع الأسبوع، أنّ نتنياهو لم يبدِ أي حماس لفكرة كيري إطلاق مبادرة "سياسية جديدة"، تفرغ المبادرة الفلسطينية من مضمونها وتؤجلها إلى دورات مقبلة لمجلس الأمن؛ بل إنّ الصحف الإسرائيلية أبرزت في هذا السياق، أن نتنياهو أبدى تحفظات على مقترحات كيري ولم يقبل بها.
وأخيراً، العامل الثالث في حسابات نتنياهو، هو التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وانشغال العالم والرأي العام العالمي بمواجهة التنظيم، ما يجعل الشأن الإسرائيلي ــ الفلسطيني، برأي نتنياهو، وبإقرار وزير أمنه، موشيه ياعلون، في مقابلاته مع الصحف الإسرائيلية نهاية الأسبوع، هامشياً وغير محوري، ولا سيّما في ظلّ استئناف المفاوضات بين إيران والغرب، وما تقرأه إسرائيل من ردود الدول "السنيّة المعتدلة"، بحسب التوصيف الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية وتعزيزها للدور المصري بالتنسيق مع سلطة رام الله، نحو بناء قاعدة تعاون معها على أساس المصالح المشتركة.
خلاصة القول، إنّ الأشهر المقبلة للدورة الشتوية في إسرائيل، قد تشهد تصعيداً في النقاش الإسرائيلي الداخلي، وتصعيداً من اليمين الإسرائيلي في الحرب على الأقصى، ومواصلة نائب رئيس الكنيست وعدد من نواب "الليكود" أيضاً وليس فقط ممثلي التيار الصهيوني الديني (حزب البيت اليهودي)، محاولات اقتحام الأقصى. كما ستشهد أيضاً موجة تصعيد عنصري في التشريع ضد الفلسطينيين في الداخل، مثل إقرار القانون الذي يلغي كون اللغة العربية لغة رسمية في الكيان الإسرائيلي، وسيل آخر من المقترحات العنصرية، وبينها محاولات قوننة إبعاد نواب عرب من الكنيست، ومنع ترشحهم في الانتخابات المقبلة، بحجّة دعم "الإرهاب"، لا سيّما النائب حنين زعبي، وفق إعلان عضو الكنيست أوفير أكونيس، الذي يشغل منصب نائب وزير في ديوان نتنياهو.
ومن المرجّح أن تشهد هذه الدورة أيضاً، سعي مكثّف لسن قانون التجنيد الإلزامي أو فرض الخدمة الوطنيّة على الشباب الفلسطيني في الداخل، بعد سنّ قانون الاعتراف بما يسمى القومية الآرامية، بهدف سلخ الفلسطينيين المسيحيين عن عروبتهم واعتبارهم آراميين، لمن شاء منهم.