يسميها الموريتانيون "رسائل الجدران". هي كتابات تنتشر على جدران العاصمة الموريتانية نواكشوط، وتحمل في غالبيتها رسائل سياسية واجتماعية تعبّر عن معاناة المجتمع، وتطالب بالتغيير وتحسين الأوضاع المعيشية.
تنتشر الكتابات بالرغم من محاربة السلطات البلدية لها، عن طريق تغطيتها بالطلاء من حين إلى آخر. ولا تخلو الكتابات والرسومات من فن وأدب، وأسرار وألغاز "تفضح المستور". كما تحتوي على أبيات شعرية ونكات تعبّر بطريقة غير مباشرة عن رأي صاحبها.
تعود طريقة التعبير هذه إلى زمن بعيد، عندما لم يكن يتوافر للمواطن الموريتاني سواها للتعبير عن الرأي ومعارضة السلطات. ويندر أن تمرّ بشارع من شوارع المدن في موريتانيا، من دون أن تصادفك عبارات تتقاتل على الجدران للفوز بمساحة أكبر، والتأثير أكثر على قارئيها. وبالرغم من أهمية رسائل بعضها، فإنّ بعضها الآخر يحمل شتائم وعبارات خادشة للحياء العام.
وعن ذلك، يقول الباحث الاجتماعي، محمد محمود ولد بدر الدين، لـ "العربي الجديد": "وجد الشباب في هذه الكتابات فضاء للحرية والتعبير عن آرائهم ومشاعرهم ورفع مطالبهم وفضح المستور"، لكنه يعتبر أنّ "المبالغة في الكتابة عن أيّ شيء وتلويث الجدران والتشهير بالأشخاص يسيء لظاهرة الكتابة على الجدران".
وعن أسباب هذه الظاهرة، يقول ولد بدر الدين: "من أهم الأسباب غياب حرية الرأي وإهمال مشاكل الشباب وقلة الوعي بأهمية التربية السليمة واحترام الذوق العام". ويشير إلى أنّ هذه الظاهرة تكثر في حي دون آخر، وتنتشر خصوصاً في الأحياء الشعبية، ففيها يلجأ الشباب إلى هذا السلوك لتفريغ شحنات مكبوتة، كالتعبير عن موقف سياسي أو إعلان الفرحة بحدث سعيد، أو المباهاة بفوز رياضي.
ويدعو الباحث إلى عدم تجاهل هذه الظاهرة، أو تكريسها كأسلوب لتصفية الحسابات والتشهير بالأشخاص فقط. ويقول: "أسوأ ما يمكن أن نقوم به هو معالجة الكتابات بطلاء الجدران، لأن ذلك يدعو كاتبيها الى إعادة الكتابة في المكان نفسه. لذلك من الأفضل تنظيم دورات وفعاليات، والسماح للشباب بالرسم على بعض الجدران والكتابة عليها بشكل يعبر عن مكنوناتهم".
وتعمد السلطات البلدية إلى طلاء الجدران، التي تتعرض لهجمات الطباشير والفحم والأقلام. وأمام مثل هذه الممارسات الآخذة في الاتساع، لا سيما الكتابات التي تتضمن ألفاظاً غير مقبولة اجتماعياً، ورسومات إباحية، وأرقام هواتف شخصية، يشير البعض إلى ضرورة تولي السلطات معالجة الظاهرة عملياً بمساعدة المؤسسات التعليمية ودور الشباب.
وفي هذا الإطار، تقول آمنة بنت الشيخ أحمد، وهي مديرة مؤسسة تعليمية، إنّ "الشباب يلتقطون هذا السلوك من المدرسة حيث يبدؤون في الكتابة على مقاعد الدراسة واللوح لأسباب مختلفة، كالتذمر من الدروس وسلوك المدرّس، والتعبير عن رأيهم بزملائهم. كما يفضلون الكتابة في دورات المياه التي تغيب فيها الرقابة". وتؤكد أنّ الأمر نفسه "يرافق الفتى بعد أن يكبر ويشعر بالظلم السياسي أو الاجتماعي أو الأسري، فيلجأ إلى الكتابة على الجدران، لأنها أسهل طريقة لتفريغ شحناته والتعبير عن آرائه ومقاومة الشعور بالظلم".
وتضيف: "ظاهرة الكتابة على الجدران تنقسم إلى قسمين. فمنها الكتابة التي تدل على قلة الأدب وسوء السلوك. ومنها كتابة فكرة سياسية أو رأي رياضي تدل على النية الحسنة لصاحبها، ومع ذلك، فالطريقة غير مستحبة، لأنّ الجدران لم توضع في الأساس للكتابة عليها".
كما تشير إلى أنّ هذه الظاهرة تغزو المؤسسات التعليمية بشكل كبير، وتندر مصادفة جدار داخل مؤسسة لم يتعرض لمثل هذه الكتابات بمختلف الوسائل. وتتابع: "يخلّد الشباب قصص حبهم على جدران المؤسسة ويسجلون أسماءهم وتواريخ لقاءاتهم على جدران الصفوف الدراسية والمطعم وأشجار الحدائق".
تعتبر بنت الشيخ أحمد أنّ الكتابة على الجدران أسلوب غير لائق وغير حضاري، لأنه يؤذي مشاعر الآخرين ويلوث البيئة، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن بعض الطاقات التي لا بد من توجيهها في الاتجاه الصحيح. ومن ذلك تخصيص بعض الجدران للكتابة والرسم تحت إشراف مراكز متخصصة توجه الكُتاب والرسامين وتطور قدراتهم. كما تشدد على "أهمية التربية في تهيئة الطفل لحياة بعيدة عن الانحرافات السلوكية، وتقويم سلوك التلاميذ داخل المنزل وخارجه. وبذلك فإنّ المطلوب هو أن تتضافر الجهود المختلفة للقضاء على هذه الظاهرة".