معاناة السوريين النازحين إلى ريف إدلب الشمالي تكاد تكون الأكبر خلال السنوات السبع الأخيرة، منذ بداية الأزمة السورية. هؤلاء لا يجدون مأوى لهم ولا حتى خياماً، حتى أنّ بعضهم يقيم في شاحنات وسيارات.
ما زال آلاف النازحين يتوافدون يومياً إلى ريف إدلب الشمالي، هرباً من القصف والعمليات العسكرية التي تشهدها مناطقهم. وقد تخطى عدد هؤلاء يوم الثلاثاء الماضي 324 ألف نازح، بعدما وصل أكثر من ثمانية آلاف نازح خلال 24 ساعة. وكلّ واحد منهم يحمل مأساته في ظل ظروف قد تكون الأسوأ على مدى السنوات السبع الأخيرة، لا سيّما وسط عدم توفّر المساعدات الإنسانية لهم وعدم إرشادهم إلى أماكن تقيهم من التشرّد. ولا يبقى لهم غير الطرقات والأراضي الزراعية، على الرغم من موجات الصقيع والأمطار.
على الطرقات، سيارات وجرارات زراعية محمّلة بما أمكن من أثاث منزلي، وتقلّ كل واحدة منها عائلة أو أكثر. وهي تتجه أحياناً إلى ريف إدلب الشمالي على مقربة من الحدود السورية - التركية. هناك، في تلك المناطق، تجد نازحين في العراء، وقد حالف بعضهم الحظ واستطاع نصب خيم بما توفّر من شوادر وبطانيات، مع أنّها لا تمنع المطر ولا البرد.
أبو عبد الله من نازحي ريف إدلب الجنوبي، يقول لـ "العربي الجديد" إنّ "القصف الكثيف على مناطق المدنيين في ريف إدلب الجنوبي دفعني إلى النزوح مع عائلتي. فأنا لم أكن لأجلس في منزلي في انتظار صاروخ أو قذيفة، وهذا حال جميع من نزح". يضيف: "حين غادرت البلدة، كانت العائلات التي ما زالت فيها تُعَدّ على أصابع اليد. وكانت تستعدّ للرحيل". ويأسف أبو عبد الله إذ إنّ "المشكلة الأكبر هي أنّ أحداً لا يهتم بنا فعلياً، ولا ندري إلى أين نذهب وماذا نفعل. فلا منازل خالية نلجأ إليها، حتى أنّ المخيمات تغصّ بنازحين يعانون بدورهم من جرّاء قلة المساعدات". وهذا الواقع دفعه وأقاربه إلى استئجار أرض، لتنصب العائلات خياماً عليها بالمتوفّر. ولا يخفي أنّه يخاف "في كل مرة تتساقط الأمطار، إذ تحوّلت الأرض إلى مستنقع من الوحل. لكنّنا لا نملك خياراً آخر. ونحن نريد ستر أنفسنا وعائلاتنا على الأقل".
من جهتها، تقول أم خالد التي نزحت من ريف حماة الشرقي إلى ريف إدلب الشمالي، لـ "العربي الجديد": "هربت مع زوجي وأولادي من القصف. لم نحمل معنا شيئاً يذكر. منذ أكثر من 15 يوماً ونحن نقيم في شاحنتنا، وبالكاد نستطيع تأمين الطعام للأولاد. نعاني من شحّ المياه، وما من مراحيض. هذه مشكلة خصوصاً للنساء والفتيات، فإمّا أن ينتظرنَ غياب الشمس لقضاء حاجتهنّ، أم يحاولنَ تغطية أنفسهنّ ببطانية أو شادر إن وُجد". تضيف: "لم نستطع الحصول على خيمة على الرغم من أنّ أكثر من جهة سجّلت ما نحتاج إليه"، لافتة إلى أنّ "إحدى المنظمات الإنسانية في المنطقة جلبت لنا مواد تموينيّة لدى وصولنا". ولا تعرف أم خالد إلى متى سوف تبقى على هذه الحال، "فنحن كنا نظنّ أنّها أيام قليلة ونعود إلى منزلنا، لكن يبدو أنّ النظام سيطر على المنطقة وحرمنا من منزلنا. لا نعلم أين نذهب، إذ لا نجد في البلدات والمدن منازل للإيجار، والمخيمات مليئة بالنازحين ولا نملك خيمة. ولا يمكنني أن أصدّق أنّ شاحنتنا سوف تكون منزلنا إلى ما شاء الله".
إلى ذلك، يخبر عمر (15 عاماً) الذي نزح مع عائلته قبل أيام، "العربي الجديد"، أنّ "الحياة صعبة جداً هنا. أنا وإخوتي وأبي نخرج صباحاً من الخيمة بحثاً عن بعض الحطب لنتدفأ، ونطهو ما نستطيع تأمينه من أرزّ أو برغل أو عدس"، واصفاً البحث عن الحطب بـ "البحث عن الذهب". ويوضح أنّ "الناس يجمعون كل ما هو قابل للاشتعال، حتى العشب اليابس". يضيف: "لا يوجد عمل، ولا تقدّم لنا المنظمات أيّ مساعدات. وفي حال حصلت عائلة على معونة ما، بالكاد تكفيها أياماً قليلة". ويشدد على أنّ النازحين في حاجة إلى "خيمة ووقود للتدفئة ومياه للشرب".
أمّا أبو جابر وهو نازح من جبل الحص، فيخبر "العربي الجديد": "وصلنا أخيراً إلى ريف إدلب الشمالي وكان وضعنا سيئاً للغاية. لا نملك مالاً ولا مياهاً للشرب. عائلتي مؤلّفة من 15 شخصاً، من بينهم أطفال، وقد وضعت زوجة ابني طفلها أخيراً. لم أجد أحداً على الطريق يرشدني إلى مخيّم أو مركز إيواء استقبلنا". يضيف: "ولاحقاً، اتصلت بأحد أقاربي لعلّه يساعدني، وأخبرني أنّه استأجر قطعة أرض مع عدد من أقاربنا ودعاني إلى الالتحاق بهم. لم أجد أمامي خياراً أفضل من ذلك". ويوضح أنّ "أحداً لم يقدّم لنا أيّ مساعدة، وقد سألتنا إحدى الجهات عن معلومات عامة حول أوضاعنا، لكنّ عددنا تضاعف بعد المقابلة".
في السياق، يؤكد المصوّر الصحافي عامر السيد علي لـ "العربي الجديد"، أنّ "حركة النزوح ما زالت مستمرة، ولا نجد بقعة خالية من نازحين"، لافتاً إلى أنّ "النازحين يعانون بسبب عدم توفّر منازل خالية". ويشير إلى أنّ "القصف العنيف على مناطق ريف حماة الشرقي وريف إدلب الجنوبي، وما يشاع حول رغبة النظام السوري مدعوماً من روسيا في السيطرة عليها، دفع أهالي المنطقة إلى الخروج منها، حتى قبل أن تطاول العمليات العسكرية مناطقهم". يضيف أنّ "النازحين يصلون إلى المنطقة وهم يقودون السيارات الخاصة وتلك الزراعية والجرارات، جالبين معهم بعضاً من أثاثهم المنزلي، وما يملكون من مواش". ويتابع أنّ "ثمّة عائلات تستأجر أراضي لتقيم عليها، علماً أنّ معظم تلك الأراضي تابعة للدولة، إلا أنّ المتنفذين يعمدون إلى تأجيرها للنازحين". ويوضح أنّ "الاستجابة لهجمة النزوح في المنطقة تكاد لا تذكر. وفي غالب الأوقات، لا يقدّم أحد للنازحين خياماً أو مساعدات غذائية، في حين يقدّر عددهم بأكثر من 300 ألف نازح والعدد إلى ازدياد".
في هذا الإطار، توضح مصادر محلية مطلعة في إدلب لـ "العربي الجديد" أنّ "الوضع مأساوي جداً. مئات آلاف المدنيين يعيشون في العراء على الرغم من الطقس الماطر والبرد شديد في المنطقة، خصوصاً في الليل". وتلفت إلى أنّ "ثمّة عائلات تضع فوق رؤوس أفرادها النايلون، في حين تبيت أخرى في سياراتها، ونجحت فئة ثالثة في حياكة خيام يدوياً". تضيف المصادر المحلية نفسها أنّ "العائلات تعاني من جرّاء تدني استجابة المنظمات الإنسانية أمام حجم الكارثة، ولا تحصل عائلات كثيرة على أيّ مساعدات غذائية أو خيم تحتمي بها. كذلك فإنّ المساعدات التي وزّعت هي أقل بكثير من الاحتياجات".
ويفيد ناشطون من منظمات إنسانية في المنطقة "العربي الجديد" بأنّ إمكانيات منظماتهم أقلّ بكثير من الاحتياجات اليوم، في ظل هذه الموجة الكبيرة من النزوح. ويتطلب الأمر خطة استجابة من المنظمات الدولية والأممية، إذ إنّ عشرات آلاف العائلات في حاجة إلى خيام، في حين أنّ الجميع في حاجة إلى مساعدات غذائية ورعاية صحية. ويذكر هؤلاء الناشطون أنّ النقاط الطبية في المنطقة تواجه مشكلة كبيرة في تقديم الرعاية الطبية اللازمة، في حين أنّ واقع المجالس المحلية ليس أفضل من المنظمات، إذ تشكو من ضعف في الإمكانيات التي تسمح لها بالتعامل مع موجة النزوح التي تشهدها إدلب. ويؤكدون أنّ في هذه الأزمة، يبدو دور المنظمات والمجالس محدوداً.
وتؤكد في السياق مصادر إغاثية لـ "العربي الجديد" أنّ "الوضع كارثي بكلّ ما تعنيه الكلمة، ويصل آلاف النازحين إلى المناطق الآمنة في إدلب، خصوصاً الريف الشمالي والمناطق القريبة من الحدود التركية، في غياب أيّ خطط استجابة من قبل المنظمات الدولية. ويتزامن ذلك مع معاناة المنظمات والجهات المحلية من ضعف في الإمكانات وعدم قدرة على إنشاء مخيّمات وتوفير خيام أو سلال غذائية أو وقود للتدفئة. وما يُقدَّم يكاد لا يذكر". وتلفت المصادر الإغاثية نفسها إلى أنّ "انتشار النازحين فوضوي، ولا تتوفّر خطة لاستقبال هذا الرقم الضخم من النازحين، سواء من خلال المنظمات الإنسانية أو المجالس المحلية، في وقت تغيب المنظمات الدولية عن هذه الكارثة الإنسانية".
تجدر الإشارة إلى أنّ آخر البيانات التي نشرها "منسقو الاستجابة في الشمال السوري" على صفحتهم الرسمية على موقع "فيسبوك"، بيّنت أنّ عدد النازحين إلى ريف إدلب الشمالي وصل يوم الثلاثاء الماضي إلى 324 ألفاً و814 نازحا، موزّعين على 390 نقطة استقرار. وما زالت عملية الإحصاء مستمرة مع اشتداد حركة النزوح لتشمل مناطق جديدة. لكنّ مصادر مسؤولة تفيد بأنّ هذه الأرقام ليست نهائية، وثمّة نقاط استقرار لم يصل المعنيون إليها بعد، وما زالت عائلات كثيرة هائمة على وجهها ولم تجد مكاناً تستقرّ فيه بعد في ظل استمرار حركة النزوح، الأمر الذي يحتاج إلى فرق عمل وإمكانيات ضخمة.