نادين صليب: شاعرية البحث عن طفل غائب

02 ديسمبر 2014
لقطة من الفيلم
+ الخط -
يسرد شريط "أم غايب"، للمخرجة المصرية نادين صليب، قصة امرأة عاقر (حنان)، تحاول التغلب على مشكلتها البيوليوجية هذه. أوّل أفلام صليب الطويلة، حاز منذ أيام جائزة لجنة التحكيم الخاصة في "المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في أمستردام – إدفا"، بعد أن نال، قبل فترة، "جائزة النقاد الدوليين" لأفضل فيلم وثائقي عربي في الدورة الأخيرة من "مهرجان أبوظبي السينمائي".

المرأة الريفية التي قضت معظم فترة زواجها (12 عاماً) بين عيادات الأطباء وتعاويذ الشيوخ والسحرة ونصائح عجائز القرية، لا تستطيع في زمن الفيلم تجاوز مشكلتها الأساسية. تفرح أخيراً بخبر حملها، إلا أنها تفقد جنينها بعد شهر واحد، عائدة إلى خيبتها مرة أخرى.

تتحرّك كاميرا صليب ضمن فضاءات بطلة الفيلم، لتنقل وجهة نظر حنان، أو كيف ترى هذه المرأة العالم الذي تعيش به. مكانياً، تستعرض المخرجة بيوت القرية وشوارعها الترابية والجلسات النسائية، ونفسياً، تحاول اكتشاف مساحات أخرى داخل أنثى تعيش بهذه المنطقة. إذاً، الفيلم من وجهة نظر الأنثى، وهو ما استطاعت اللغة الشاعرية، بتجاوزها لنمطية الحكاية في كثير من أماكن الفيلم، على إيصاله.

الأمر السابق يشير أيضاً إلى شكل علاقة صانعة الفيلم بشخصية حكايتها، إذ لم تكن الكاميرا عنصراً غريباً، ولم تكن صليب تحاول استراق لحظات بقدر ما كانت تحاول أن تبني علاقة وطيدة مع من تود تقديم حكايتها. هكذا، بدت بطلة الفيلم، في لحظات كثيرة، تخاطب صديقتها الأنثى الأخرى (المخرجة)، فتسألها عن الأمومة والأنوثة والحب، وعن تصوراتها للحياة.

غياب الحدث الفاعل في الفيلم قابلَه غياب الطفل في الحكاية المقدمة، وهو ما يؤكده عنوان الشريط. مثل علاقة الفيلم بالحدث الغائب بوصفه محرّكاً له، لا ينفي غياب الطفل من حياة حنان أمومتها، وهو ما عمل الشريط على أن يكون نقطة انطلاقه، فنجدها تحيا كأم تستمد رؤية العالم من كونها أمّاً بالدرجة الأولى، فتعيش في عوالم داخلية شغلت مساحات الفيلم الأساسية.

جنوح الشخصية نحو الخيال منذ طفولتها، كونها تمتلك فلسفة خاصة تجاه الحياة، جعل من المتخيل واقعاً ذاتياً يشكل مهرباً لصاحبته من قسوة الواقع الحقيقي. ككل من حولها، تزوجت حنان في سن صغيرة. صحيح أنها تظهر راضخة إلى الواقع الخارجي، إلا ان أنها لا تتردد في الفيلم في إظهار سخطها على المنظومة القائمة من خلال علاقتها مع التخيل كأداة تجابه واقعية الواقع.

يظهر جلياً في "أم غايب" اشتغال صناع الفيلم على الصوت بالمعنى التقني، حيث يبدو تعمُّد عدم تجميله تقنياً، ليظهر وكأن الشريط يجنح بين الواقع وبين أساطيره وخرافاته. والصوت بالمعنى النفسي؛ القادم من الأعماق كبديل عن المنطوق المباشر، يتجلى بفوضى ظهور أصوات الأطفال وضجيجهم وكلام العجائز كذلك.

الفيلم الذي أنتجه مشروع "حصالة" السينمائي، اعتمد في بنائه على لغة الأنثى ومفاهميها حول الحياة والأمومة والواقع والتحرر والموت، كما رصد العام من أثره على الخاص، وليس العكس. إن عدم تقديم شخصية الزوج (عربي) كفاعل أعطى قيمة مضافة للفيلم، على العكس من تقديم شخصية العم الذي شكل حضوره المتكرر، في بعض الأحيان، خروجاً عن عماد الفيلم الأساسي؛ تأنيثٌ للغة البصرية في شريط المخرجة المصرية.

تنتقل صليب من الخاص إلى العام، ومن المتخيل إلى الواقعي، لترصد قصة مغرقة في الذاتية، لكنها تمثل بداية الطريق للتعرف على جميع الشخوص أو على بيئة كاملة، التي إن استطاع الرائي تجاوز الصورة النمطية عنها، ستصدمه فلسفة خاصة ومواقف ورؤى لكل شخصية حول هذا العالم ومآزقه.

هكذا، استطاع المشروع الطويل الأول لنادين صليب أن يعلن عن اجتهاد صاحبته، كاشفاً عن قيامها برحلة بحث وحياة طويلة مع بيئة فيلمها، وهو ما لا تخفيه لحظات استثنائية عديدة في الشريط الوثائقي، نذكر منها على سبيل المثال: بوح حنان وهي تبتسم أمام الكاميرا، أنها تفكر أحياناً بأن تخرج ثوب الطفلة من خزانتها لتغسله وتنشره على حبل الغسيل لكي تقتنع بأمومتها.

تجدر الإشارة إلى أن هذا الفيلم الوثائقي المصري شارك في المهرجان الهولندي، الذي اختتمت فعالياته يوم الأحد الماضي، حيث عرض ضمن "مسابقة إدفا لأول ظهور سينمائي"، إلى جانب شريط عربي آخر هو "أنا مع العروسة"، و13 فيلماً من مختلف أنحاء العالم.

المساهمون