29 سبتمبر 2017
ناجي العلي قصة موت معلن
حافظ ناجي العلي على خجله، وقلة كلامه في المجالس العامة، أو مع من جمعته بهم جلسات خاصة، حتى ليظنّ الجالس معه الظنون، حين يشاهد رسومه الكاريكاتورية، ويرى كل ذلك الصخب والصراخ الذي يهدف منه الإيقاظ. إيقاظ الناس وضمائرهم، وتحفيز عقولهم، ليروا ما يدور حولهم من ألمٍ وجوع وفقر، وإحباط ويأس أحياناً، وهم يعيشون بين قوىً كالوحوش، تلتهم كل شيء، الأوطان والقضايا الكبرى والنفوذ، ولا تكترث لكل المآسي التي تُرك الناس يتخبّطون في دروبها، فمن أين يخرج كل هذا الغضب الذي عاشه ناجي العلي، الخجول قليل الكلام، طوال سنوات إبداعه.
كان ناجي العلي غاضباً ضد الظلم والتشرد والفساد والكذب على الناس، وخداعهم بالشعارات وامتهان كرامة الإنسان، وسرقة الأوطان والمتاجرة في مصائرها. كان ابناً باراً للمخيم، بما يشكله من حيّز للألم واليأس. ومن مخيم عين الحلوة، بدأ ناجي العلي يطلق سهامه ضد كل ما هو معادٍ لحرية الإنسان، فقد كان هو نفسه مظلوماً حين خرج من قريته "الشجرة"، طفلاً يعي مكانة بلاده في نفسه، ويعي عمق هاوية التشرّد في المنفى.
لم يستثن أحداً من نقده الصارخ في رسوماته الحادة كالسهام، ولم يترك أحداً لم تطله عيناه الناقدتان النافذتان إلى عمق الوجع، ومنتهى التماهي مع الناس الذين عاش معهم، ومن أجلهم أبدع، ودفاعاً عنهم قُتل غيلةً في بلاد اعتقد أن بإمكانها توفير ساتر له من رصاص القتل.
سيمر في 29 أغسطس/ آب المقبل ثلاثون عاماً على اغتيال ناجي العلي في لندن، منفاه الأخير بعد لبنان والكويت.
في السنوات القليلة التي سبقت اغتياله، فتح ناجي العلي صدره، وأخرج كل ما يغلي فيه من نقد، ومن رؤىً آمن بأنها يجب أن تُحكى للناس الذين كانوا يهرعون إلى الصحف، ليقرأوا رؤاهم كما رآها. انتقد جميع الزعماء العرب، وسخر منهم سخرية لاذعة، وانتقد الجبهات والحركات والأحزاب في العالم العربي الواسع، وانتقد ياسر عرفات بشخصه وسياسته، وانتقد محمود درويش بما آلم درويش الذي أحبّه، وكتب عنه أجمل الكلام، وانتقد اتحاد الكتاب الفلسطينيين مؤسسةً وأعضاءً. وفي الشهور الأخيرة من حياته، وصل نقده إلى الرجل الذي كان أثيراً لديه وقريباً إلى قلبه، جورج حبش، وكأن ناجي كان يحسّ أنه مقبل على الموت، فأراد أن يُخرج من كيانه كل كلام ابن المخيم البسيط والصادق، والشفّاف شفافية الوجع الأصيل.
غضب كثيرون منه وعليه، وكان كثيرون يخشون رؤاه للواقع، وهم في مواقع لا يحبها ناجي. وكان كثيرون يكتبون، أو يصرّحون، أو يحكون، في مجالس خاصة، عن خوفهم من ريشة ناجي العلي، لأنه الفاضح والكاشف لكل العفن والنفاق والغلط والفساد والاعوجاج في قيادة الطريق.
في الأيام الأخيرة من حياته، غضب عرفات منه، وغضب محمود درويش منه، وغضبت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منه، وغضب كتاب فلسطينيون، وكانت مخابرات الدول العربية التي لم يوفرها ناجي بنقده الجارح قد غضبت منه.
وفي تلك الأيام، وصلت إلى ناجي تهديداتٌ أو تحذيراتٌ أو تنبيهاتٌ كي يخفف من سهامه المنطلقة، بسرعةٍ وجموحٍ، ضد الجميع الذين رآهم مخطئين أو متآمرين أو منحرفين أو فاسدين. وفي تلك الأيام، كانت اللحظة، القفزة الدرامية الكبرى، في شخصية ناجي العلي الذي بدا كأنه ذاهبٌ إلى حتفه مثل أي بطلٍ من أبطال الأساطير الذين يعرفون مصيرهم المحتوم، لكن صفاءهم ونقاء سريرتهم يدفعانهم إلى النهاية التي لا مفر منها أمام هذا الحشد الهائل من رفض ما يرسم واستنكاره، فلم يسلم أحدٌ من يده ولسانه. تلك هي اللحظة التي التقطتها إسرائيل بذكاء العدو المثابر على التخلص من جبهة أعدائها السياسيين والمثقفين، لتقتل ناجي العلي.
كان ناجي العلي غاضباً ضد الظلم والتشرد والفساد والكذب على الناس، وخداعهم بالشعارات وامتهان كرامة الإنسان، وسرقة الأوطان والمتاجرة في مصائرها. كان ابناً باراً للمخيم، بما يشكله من حيّز للألم واليأس. ومن مخيم عين الحلوة، بدأ ناجي العلي يطلق سهامه ضد كل ما هو معادٍ لحرية الإنسان، فقد كان هو نفسه مظلوماً حين خرج من قريته "الشجرة"، طفلاً يعي مكانة بلاده في نفسه، ويعي عمق هاوية التشرّد في المنفى.
لم يستثن أحداً من نقده الصارخ في رسوماته الحادة كالسهام، ولم يترك أحداً لم تطله عيناه الناقدتان النافذتان إلى عمق الوجع، ومنتهى التماهي مع الناس الذين عاش معهم، ومن أجلهم أبدع، ودفاعاً عنهم قُتل غيلةً في بلاد اعتقد أن بإمكانها توفير ساتر له من رصاص القتل.
سيمر في 29 أغسطس/ آب المقبل ثلاثون عاماً على اغتيال ناجي العلي في لندن، منفاه الأخير بعد لبنان والكويت.
في السنوات القليلة التي سبقت اغتياله، فتح ناجي العلي صدره، وأخرج كل ما يغلي فيه من نقد، ومن رؤىً آمن بأنها يجب أن تُحكى للناس الذين كانوا يهرعون إلى الصحف، ليقرأوا رؤاهم كما رآها. انتقد جميع الزعماء العرب، وسخر منهم سخرية لاذعة، وانتقد الجبهات والحركات والأحزاب في العالم العربي الواسع، وانتقد ياسر عرفات بشخصه وسياسته، وانتقد محمود درويش بما آلم درويش الذي أحبّه، وكتب عنه أجمل الكلام، وانتقد اتحاد الكتاب الفلسطينيين مؤسسةً وأعضاءً. وفي الشهور الأخيرة من حياته، وصل نقده إلى الرجل الذي كان أثيراً لديه وقريباً إلى قلبه، جورج حبش، وكأن ناجي كان يحسّ أنه مقبل على الموت، فأراد أن يُخرج من كيانه كل كلام ابن المخيم البسيط والصادق، والشفّاف شفافية الوجع الأصيل.
غضب كثيرون منه وعليه، وكان كثيرون يخشون رؤاه للواقع، وهم في مواقع لا يحبها ناجي. وكان كثيرون يكتبون، أو يصرّحون، أو يحكون، في مجالس خاصة، عن خوفهم من ريشة ناجي العلي، لأنه الفاضح والكاشف لكل العفن والنفاق والغلط والفساد والاعوجاج في قيادة الطريق.
في الأيام الأخيرة من حياته، غضب عرفات منه، وغضب محمود درويش منه، وغضبت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منه، وغضب كتاب فلسطينيون، وكانت مخابرات الدول العربية التي لم يوفرها ناجي بنقده الجارح قد غضبت منه.
وفي تلك الأيام، وصلت إلى ناجي تهديداتٌ أو تحذيراتٌ أو تنبيهاتٌ كي يخفف من سهامه المنطلقة، بسرعةٍ وجموحٍ، ضد الجميع الذين رآهم مخطئين أو متآمرين أو منحرفين أو فاسدين. وفي تلك الأيام، كانت اللحظة، القفزة الدرامية الكبرى، في شخصية ناجي العلي الذي بدا كأنه ذاهبٌ إلى حتفه مثل أي بطلٍ من أبطال الأساطير الذين يعرفون مصيرهم المحتوم، لكن صفاءهم ونقاء سريرتهم يدفعانهم إلى النهاية التي لا مفر منها أمام هذا الحشد الهائل من رفض ما يرسم واستنكاره، فلم يسلم أحدٌ من يده ولسانه. تلك هي اللحظة التي التقطتها إسرائيل بذكاء العدو المثابر على التخلص من جبهة أعدائها السياسيين والمثقفين، لتقتل ناجي العلي.