رغم أن روايات خَافيير سييرّا، الروائي الإسباني الأكثر شهرة والحائز عدة جوائز من ضمنها جائزة أفضل كتاب لاتيني، ترجمت إلى أكثر من 40 لغة، ووزعت في ما لا يقل عن 50 بلدا، إلا أن أيا من رواياته الإحدى عشرة لم يترجم بعد للعربية. سييرا أسرَّ لـ "العربي الجديد" بأن ترجمة كتبه إلى العربية شوق قديم عنده، وأنه يتمنى أن تكون روايته الأخيرة "الهرم الخالد، سر نابليون المصري" والتي صدرت هذا العام، فاتحة التعرف إلى القراء العرب وبلغتهم، خصوصاً وأنها تأخذنا، كما يقول، إلى الفترة التي التقت فيها فرنسا الثورة بمصر العثمانية ونتج عن ذلك اللقاء اصطدام ثقافات لم يُرَ مثله منذ قرون.
في الرواية التي ترجع بنا إلى نهاية القرن الثامن عشر خلال حملة نابوليون بونابرت العسكرية على مصر، قرر المؤلف أن يتبع القائد الفرنسي خطوة إثر خطوة، ليأخذ القارئ إلى عالم غني بالإثارة والألغاز. ولهذا فإننا نرى سييرّا نفسه يقرر في عام 1997 المبيت وحده في الهرم الأكبر، تماما مثل ما عمل نابوليون قبل أكثر من قرنين من الزمان، ويختار ليلة الثاني عشر من أغسطس/آب وهو التاريخ نفسه الذي شهد مبيت نابليون في الهرم ذاته. أضاف هذا الأسلوب الشائق أجواءً مشوقة على نص سييرا، الذي بدا مليئا بالغموض المثير الذي يكشف الكاتب عن أسراره بحسب ما يرى ومتى ما يريد.
"الهرم الخالد" تسرد ثلاثة أيام من حياة نابوليون خلال الحملة الفرنسية في مصر، التي بدأت سنة 1798 عندما وصل القائد الفرنسي إلى مصر بغية احتلال موقع استراتيجي في المنطقة. وبعيدا عن كتب التاريخ وتركيزها على قدرات نابوليون العسكرية، وتميز قدرته العقلية البارزة، فإن رواية سييرّا تتمحور حول اهتمام نابوليون بالعوالم الباطنية، وخصوصا هوسه بفكرة اكتشاف سر الخلود. في "الهرم الخالد" يعيد سييرا عمليا ما بدأه عام 2002 عندما كتب "سر نابليون المصري"، والتي يطورها هنا بشكل أكثر نضجا وعمقاً، ومركزا على "تعزيز دور الحب في الانتصار على الموت" كما يقول الكاتب.
يبدأ سرد الرواية من منتصف الأحداث التاريخية حين يقرر نابوليون أن يبيت ليلة 12 أغسطس/آب سنة 1799، والتي سبقت عيد ميلاده الثلاثين بثلاثة أيام، في الهرم الأكبر بمنطقة الجيزة، وبالتحديد داخل تابوت الملك خوفو، الذي صادف أن تكون أبعاده مطابقة لقياسات القائد نفسها، ليعرض نفسه لما أسماه الفراعنة بـ "إفراغ" الروح. وهذا الإفراغ عبارة عن طقوس علمانية يجب على المتجسد فيها أن يختار بين الموت جسديا أو الحياة الأبدية.
في داخل تابوت خوفو يخضع نابليون لاختبار "العلماء الزرق"، وهم رسل يحملون سر الخلود ويظهرون فقط عندما يجدون شخصا يتوسمون فيه تلك الصفات الخاصة التي تؤهله لإجراء اختبار الخلود. يزور نابليون الناصرة وهناك يبين له "العلماء الزرق" التشابه بين المسيح وأوزيريس، إله البعث عند قدماء المصريين، ويقنعونه بأنه تم اختياره لإجراء اختبار الخلود في الجيزة بسبب تشابهه معهما. إلا أن مجريات الأحداث تتغير عندما تظهر امرأة من قبيلة بني رشيد، ليتمحور دورها حول إنقاذ القائد من الموت بالحب فقط. تعمل نادية بن رشيد راقصة وهي فاتنة الجمال، إلى درجة أنها تتشخص بالإلهة إيزيس التي عبدها المصريون القدماء لأنها استعادت جثة أوزيريس بعد أن قتله أخوه ست.
تغتني الرواية بتناقضات وجودية مثل الموت والحياة، العقل والغريزة، الخلود والتلاشي، النظام والفوضى، النور والظلام، الحرب والسلام، الحقيقة والخيال، محيلة التناقض إلى قيمة ذات معنى عقلاني في الحياة. ولكن تتوازى مع ذلك قيمة أخرى هي التوازن الذي يمثل سراً مستبطناً تسير الأشياء لتحقيقه. ويتضح ذلك في نهاية الرواية عندما يكتشف نابوليون بنفسه أن "مَن يمُت يعش للأبد" و"مَن يتشبث بهذه الحياة يمُت للأبد" (ص 309).
مثل هذا الإبداع دفع دار التوزيع العالمية بوردرز (Borders) لإطلاق لقب "رجل النهضة" على سييرا، إثر تصدر كتابه "العشاء السري" قائمة الكُتب الأكثر مبيعا، وبكونه يصنف كاتبا ومؤرخا وصحافيا وباحثا ومغامِرا في آن واحد. كما لا تأتي روايات سييرّا على شكل كتاب ورقي فحسب، بل نجد فيها – وثائق "رقمية" عديدة (صوراً وفيديوهات وتسجيلات أصوات ومخطوطات وخرائط وإلى غير ذلك) تأتي لتكمل نسيج مؤلفات رجل النهضة المعاصرة هذا.
يجيب سييرا على سؤالنا عن موضوع روايته المقبلة بالقول إن هذا الأمر يتعلق بالعملية الإبداعية، والتي ترتبط بـ "الوحي"، ويضيف: "كيف يبدع الرسام أو الموسيقار أو الكاتب؟ هل يخرج الفن من اللاشيء أم أن الفنان يتصل بشيء غير مرئي يفوقه في القدرات؟".
*أكاديمية إسبانية