مَنْ يحبِسُ الشّمس؟
كطيورٍ تكسّرت أجنحتها وخذلتها حينَ حاولت الطيران فاعتزلت السماء، تخذلنا خيباتنا الكبيرة فنعتزل الحلم والحياة. نجلس على مقاعد اليأس تاركين لأعمارنا مهمة الإنصات لدقات ساعاتها المعلقة على جدران العمر بانتظار دقة تعلن النهاية.
وحيدين، على نفس المقاعد نستسلم لتيار الذاكرة فيسحبنا إلى الوراء؛ إلى تلك المناطق المحرّمة التي حُظر علينا ارتيادها إلى الأبد، فنتمسك بذاكرتنا أكثر كونها قبعة الخفاء الوحيدة التي تعيدنا إلى هناك ما إن نرتديها.
لماذا نتشبث بالذاكرة؟ وما سر تعلقنا المَرَضي بخيوطِ ذاكرة ندرك تماما أنها واهنة إلى ذلك الحد الذي لن تستطيع به رفعنا ثانية إلى سماء أوهامنا الماضية، بل إنها ستبقي أقدامنا مُعلّقة في الهواء، بعيدة عن الارتكاز على أرض حقيقتنا الحاضرة التي لم نعُد نمتلك سواها طريقاً مُمهداً يقودنا إلى ذواتنا.
الطفولةٌ بريئةٌ. نعم. والأطفال بريئون أيضاً لكنهم ليسوا دُمىً من ورق؛ ففي قلب الطفولة ينبضُ ألف قلب ومِن حسِّها وحدْسها تزور الرّؤى أرواحُ البَشر
كريشةٍ مُرهفة نقف في مهبّ ريح النسيان. نقاوم بكل ما تبقى من جذور أمنياتنا البائسة/الضائعة، نستبسِلُ كي لا نُقتلع من رمال الخيبةِ الآمنة لِتُجازف بنا الريح في فضاء الآمال المجهولة.
نخافُ النسيان؟ أجل. نخافُه. نخافه حين نفقد الثقة في "جناحي الإرادة منّا والرغبة". نخافه حين نرتكب حماقة يأسنا الأخيرة فنذنب بحق أنفسنا ونركن بها إلى الخمول والكسل.
نعم نخاف النسيان ونصاب بالذعر من مجرد فكرة قد تأتي باحتمال أنه سيخوننا مُبكِّراً ليكسر لنا مُسمار الذاكرة الوحيد الذي نعلق عليه مُبرراتنا وندُقه جيداً في جدار الزمن ليبقى دليلاً كافياً نُثبت بوجوده نُبل معاركنا البطولية الفاشلة وبُؤس فجيعتنا بها.
نخاف خيانة النسيان للذاكرة وننسى أن في النسيان الذي نعتبره خيانة للذاكرة أشد الوفاء للذكرى.عندما نعود بسنواتنا كثيراً إلى الوراء، نتذكر أنفسنا أطفالاً سجيّتنا الدّهشة ومعلمنا الفضول ودليلنا حدسنا الذي لا يضل ولا يمنعنا من اقتفاء خيالاتنا المجنونة.
في نهارات مغامراتنا التي كنا نكاد لا نريدها أن تنتهي. ما أن توشك على البدء ، كنا نتعلق بخيوط الشمس نتخيلها تشبه السحر إذ تتسلل عبر زجاج نوافذنا الموصدة على ليالي أحلامنا النائمة لتفتح لنا أبواب صباحاتها فنتسلل إليها باكراً لنرافقها تحت السماء.
كانت تمسك بأيدينا، تصحبنا إلى أزمنة تشبه تلك الأزمنة التي كثيرا ما راودت خيال طفولتنا، وتأخذنا إلى أمكنة رأيناها مسبقا بعيون أحلامنا التي ما اعتادت أن تسجن في واقع أجسادنا المحدود، هذه الأجساد التي قد تحبس خلف جدران فلا ترى الشمس أو تحت سقف فلا تستظل بسماء، لكن من يحبس الشمس ويمنع خيوط النور من الوصول إلينا؟!
يُقال أن الطفولة حاستنا السادسة التي لا ينبغي لنا التخلي عنها وإن تخلى عنا عهدها. مَن منا لا يتذكر ملمحا مهما من ملامح شغفه الطفولي، ذلك الشغف الذي تركه على أعتاب طفولته وتخطاها دون أن يسمح له بعبور بوابة الزمن ليكبر معه.
مَن منا لم يحفظ شغفه عن ظهر قلب؟ من منا لم يردده كأغنية أطفال أثيرة في فيلمه الكارتوني المفضل؟ أن أولئك الأطفال الذين كُنّاهم لم تستهوهم ألعاب الطفولة يوما بقدر ما جذبتهم فيها رؤية ذواتهم على حقيقتها، ولعل ذلك ما لم ندركه بعين النضج لاحقا، بل ما أدركناه آنذاك بقلب الطفولة منا بل بحِسها وبحدسها أيضا.
الطفولةٌ بريئةٌ. نعم. والأطفال بريئون أيضاً لكنهم ليسوا دُمىً من ورق؛ ففي قلب الطفولة ينبضُ ألف قلب ومِن حسِّها وحدْسها تزور الرّؤى أرواحُ البَشر.