نشرت دار "أتلانتيس" التشيكية أخيراً كتاباً جديداً لميلان كونديرا تحت عنوان "كلمات، مفاهيم وحالات"، هو عبارة عن نصوص ومقالات نقدية اختارها وترجمها عن الفرنسية الكاتب بنفسه. هذه الترجمة أثارت مجدداً النقاش حول علاقة الروائي التشيكي الإشكالية بوطنه الأصلي وبلغته الأم ورفضه الغامض ترجمة رواياته الأخيرة إلى التشيكية.
يسود انقسام حاد في الساحة الثقافية التشيكية حول كونديرا. فهناك قسم يحتفي به باعتباره أعظم كاتب تشيكي على قيد الحياة و"سفيراً فوق العادة" لبلده في الساحة الأدبية العالمية، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها. وهناك قسم آخر يتهم كونديرا بالتعالي على وطنه بسبب إصراره على رفض ترجمة رواياته المكتوبة بالفرنسية إلى التشيكية وحرمان أبناء بلده من قراءته في لغتهم؛ بل إن بعض الصحافيين التشيكيين غالوا في هجومهم على كونديرا واتهموه بالخيانة.
ولفهم ملابسات هذه القضية علينا العودة قليلاً إلى الوراء. فكونديرا لم يتبنَّ الفرنسية كلغة للكتابة سوى في مستهل التسعينيات، أي بعد نحو عشرين عاماً من الإقامة في فرنسا، علماً أنه كان يستعملها بطلاقة في عمله كأستاذ للأدب في الجامعات الفرنسية. كتب بها، بدايةً، مقالات نظرية وتأملات حول الكتابة والفن الروائي في مؤلفيَه "تأملات في فن الرواية" و"الوصايا المغدورة". هذا التبني اللغوي ترسخ وازداد متانة عندما صارت الفرنسية لغته الإبداعية أيضاً. وهذا ما حققه عبر روايته الفرنسية الأولى الصادرة عام 1995 تحت عنوان "البطء"؛ تلتها "الهوية" عام 1998 و"الجهل" عام 2000 ثم "عيد اللامعنى"، آخر أعماله الصادرة هذا العام.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن كونديرا، على شاكلة الكاتبين العملاقين، الإيرلندي صموئيل بيكيت والروماني إميل سيوران، برع في استعمال اللغة الفرنسية التي نهل من كنوزها في تشيكوسلوفاكيا خلال طفولته. كما أن العشرين عاماً التي قضاها في فرنسا واحتكاكه بالتعليم الجامعي منحاه فرصة تطويعها لدرجة أن كبار الكتاب والناشرين الفرنسيين انحنوا له إجلالاً لاستعماله المتين والمحكم للغتهم ودرايته بأسرارها البلاغية والإيقاعية؛ إضافة إلى استيعابه الخلاق للموروث الأدبي الفرنسي.
هجرة كونديرا اللغوية من التشيكية إلى الفرنسية كانت ناجحة بكل المقاييس، لذا لم يفقد أسلوبه "التشيكي" أدنى ذرة، بل بالعكس؛ ازداد رونقاً ومتانة واكتسب بُعداً ساخراً على الطريقة الكلاسيكية الراقية، إلى درجة أن غالبية القراء الفرنسيين لم ينتبهوا إلى أن الرجل غيّر أداته اللغوية.
غير أن علاقة كونديرا بالفرنسية، وبالوسط الأدبي الفرنسي بشكل عام، لم تخلُ، هي الأخرى، من التشنّج، والدليل على ذلك، الملابسات المثيرة للجدل التي رافقت صدور روايته الأخيرة "عيد اللامعنى". فبسبب الاستقبال الفاتر الذي خصصته الصحافة الثقافية الفرنسية لروايته السابقة "البطء"، وأيضاً صدور عدة مقالات في الملاحق الأدبية تناولت سلباً أعماله الأخيرة، بعضها تحدّث عن نضوبٍ في موهبته الكتابية؛ فضّل كونديرا أن ينشر رواية "عيد اللامعنى" أولاً في نسخة إيطالية مترجمة عن الفرنسية، قبل أن تصدر هذا العام في فرنسا.
القصة نفسها حصلت مع رواية "الجهل" التي نشرها أولاً عام 2000 في ترجمة إسبانية رغم امتلاك دار "غاليمار" حقوق النشر الحصرية لأعماله في فرنسا، والتي تعوّل عليه كثيراً كقامة شامخة في "كاتالوغها" الروائي.
"مشاكل" كونديرا مع الفرنسية برزت أيضاً عندما اقتُرح عليه إصدار أعماله الكاملة في سلسلة "لا بليياد" العريقة، وهي سلسلة مخصصة عادةً لكبار الكتّاب الراحلين، وهو شرف لم يحظ به سوى الروماني أوجين يونيسكو، عندما نُشرت أعماله الكاملة وكان لا يزال على قيد الحياة. فقد أصرّ كونديرا على مراجعة جميع رواياته المترجمة من التشيكية إلى الفرنسية، مدققاً في نصوصها سطراً سطراً. ذلك أنه انتبه إلى أن غالبية هذه الترجمات مكتوبة بأسلوب منمق وإيقاع كلاسيكي لا يتناسب مع نَفَس النصوص الأصلية، بل يتعارض، في بعض الأحيان، كلياً، مع نزعتها الفكاهية. وبلغ به الأمر حد تسجيل هذه الملاحظة "المزعجة" في النص التقديمي والتبرؤ من شوائب هذه الترجمات السيئة في طبعة الأعمال الكاملة.
ولكي نفهم الامتعاض التشيكي تجاه رفض كونديرا ترجمة رواياته الأخيرة للغته الأم، يجب أن نضع في الحسبان أن هذه الروايات الأربع المكتوبة بالفرنسية صدرت مترجمة إلى العديد من اللغات العالمية إلا التشيكية. لكن، هل ثمة تفسير لإصرار كونديرا على حرمان أبناء بلده من قراءة أعماله في لغتهم الأم؟ في الواقع، لم يقدم الكاتب أي تبرير مقنع لهذه القضية، عدا إقراره ذات مرة لأحد أصدقائه التشيكيين القدامى بأنه لا يستسيغ قراءة رواياته المكتوبة بالفرنسية مترجمةً من طرف شخص آخر سواه؛ تبرير يضعه بعضهم في خانة النرجسية المفرطة التي تنتاب عادةً كبار الكُتاب، وكونديرا واحد منهم.
لعلّ هناك تفسيراً آخر لهذا الخصام الغريب مع اللغة التشيكية، والوسط الثقافي في وطنه الأم، بشكل عام، ونقصد الخيبة الكبيرة التي اعترته بسبب الاتهامات التي وجهتها إليه مجلة تشيكية عام 2009، وجاء فيها أن كونديراً كان متواطئاً في الوشاية بأحد المثقفين المنشقين للمخابرات التشيكية؛ وشاية دفع فيها ذاك الرجل سنوات طويلة من السجن. ونشرت الصحيفة وثيقة للمخابرات عائدة إلى عام 1950، تعزز هذه الاتهامات. وحسب بعض المقربين، فإن كونديرا تألم كثيراً بسبب هذه الاتهامات. ورغم مرور السنين ظلت آلامها جاثمة على صدره حتى أنه رفض الإدلاء بأي حوار أو مقابلة صحافية للإعلام التشيكي منذ تلك الفترة.
كونديرا الذي يبلغ اليوم 85 عاماً، معروف بحساسيته المفرطة ومزاجه الرهيف وعزوفه عن العلاقات الاجتماعية، وكذلك نفسيته الميالة إلى الكآبة. وقد تحول في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه "الشبح" في باريس. فهو يسكن منعزلاً في شقة منزوية في زقاق ضيق في حي مونبارناس، ولم يدل بأي تصريح لوسائل الإعلام الفرنسية منذ عقدين من الزمن. كما أنه يقاطع المَعارض والمؤتمرات والقراءات وكافة الفعاليات الثقافية التي يُدعى إليها، علاوة على أنه لا يرد على الهاتف إلا في الحالات الطارئة. وتحكي إحدى صديقاته أنه يتفق مع أعضاء الحلقة الضيّقة من المقربين على طرق معين على الباب يتأكد من خلاله من هوية الطارق قبل أن يستقبله.
ومن يدري، ربما هذا بالضبط ما قصده كونديرا حين عرّف ذات يوم الكتابة على النحو الآتي: "الكتابةُ هي لذةُ المخالفة، وسعادةُ الوقوف وحيداً ضد الجميع، وبهجةُ استفزاز الأعداء وإزعاجُ الأصدقاء".