تتّجه الأنظار في هذه الليلة إلى كنيسة المهد في بيت لحم وإلى الكنائس الأخرى في القدس وفلسطين المحتلة. هي ليلة عيد الميلاد، ويصحّ القول "عيد.. بأيّة حال عدت يا عيد"
عشيّة عيد الميلاد، لا يخفي الفلسطينيون المسيحيون غصّتهم. فهذا العيد الذي اعتاد أن يدخل البهجة إلى قلوب الصغار والكبار، على الرغم من كلّ الظروف القاهرة التي عرفها أبناء تلك الأرض، يحلّ هذا العام مختلفاً. "ما أصاب أهل القدس من مسيحيين ومسلمين من جرّاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ترك في النفوس كثيراً من الألم والحزن قبيل عيد الميلاد الذي تحتفل به مختلف الطوائف المسيحية المقدسية". هذا ما يقوله رئيس جمعية تطوير حارة النصارى في البلدة القديمة من القدس، باسم سعيد (أبو حفيظ). يضيف أنّ "الطوائف المسيحية مجتمعة اتّخذت قراراً يقضي بأن تقتصر احتفالاتها بالعيد هذا العام على الشعائر الدينية والزيارات فقط. بالتالي، تختفي المظاهر الاحتفالية التي كانت تتكرر في كلّ عام".
ولأنّ العطاء والتشارك من معاني عيد الميلاد، يخبر أبو حفيظ "العربي الجديد" عن "مبادرة غير احتفالية قامت بها جمعية تطوير حارة النصارى شملت 65 أرملة مقدسية وأكثر من 80 طفلاً يتيماً من مختلف الطوائف، إذ أقامت الجمعية لهم مأدبة غداء في حين وزّعت هدايا عيد الميلاد على الأطفال اليتامى حتى لا يشعروا بألم فقد ذويهم. هكذا يستطيعون عيش عيد الميلاد واستقباله بالترانيم وباللعب مع أقرانهم".
وأبو حفيظ، تماماً كما سواه من المقدسيين، يصف الرئيس الأميركي بـ"المجنون والموتور. هو سرق من الجميع فرحة المؤمنين بعيد الميلاد، وأشاع بيننا الخوف ممّا قد نشهده هذه الأيام من قمع واعتقالات واعتداءات على المحتجّين المسالمين". لكنّه يؤكّد أنّ "قرار ترامب يقوّي وحدة المقدسيين، ويعزّز أواصر العلاقة في ما بينهم، ويرسّخ ارتباطهم بمدينتهم المقدّسة".
تحضيرات لاحتفالات العيد الدينية في كنيسة المهد (توماس كوكس/ فرانس برس) |
إصرار على الاحتفال
من جهته، لا يُخفي جمال سنيورة، وهو موظّف سابق من سكان وادي الجوز شماليّ البلدة القديمة من القدس، امتعاضه وامتعاض أسرته من الأجواء التي خلّفها قرار ترامب بشأن القدس على أعياد الميلاد. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "هذا العام هو من الأعوام الحزينة التي تمرّ على مدينة القدس؛ مدينة الديانات السماوية. لذا، فإنّ النفوس ليست مهيّأة للاحتفال بالميلاد مثلما جرت العادة". يضيف: "بالنسبة إلينا، نحن نلتزم بقرارات مرجعياتنا الدينية، وسوف تُقتصَر احتفالاتنا على إضاءة شجرة الميلاد في بيوتنا، وعلى لقاءاتنا العائلية حول مائدة الغداء. كذلك، بعض منّا سوف يكون في بيت لحم؛ حاضنة كنيسة المهد. هناك، نلتقي بأصدقائنا من مسيحيين ومسلمين ونتبادل الزيارات والتهاني بأعيادنا على الرغم ممّا تعيشه القدس اليوم وما يعانيه أهلها من ممارسات الاحتلال".
المشهد في القدس العتيقة يترجم حال أهلها وطوائفها، وسط تصعيد الاحتلال إجراءاته القمعية وتحويله البلدة القديمة في المدينة المقدسة إلى ثكنة عسكرية، في حين تغصّ ساحة الشهداء في باب العامود بالسواتر الحديدية والجنود. لكنّ ذلك كلّه لم يمنع كثيرين من أصحاب المحال والمكتبات من بيع زينة الميلاد لطالبيها من مسيحيين ومسلمين، وهو أمر يؤكّده عصام الطويل، وهو صاحب محلّ في سوق خان الزيت في البلدة القديمة. ويشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الأيام القليلة الماضية شهدت إقبالاً كبيراً من قبل المواطنين المقدسيين. فقد تسابقوا على شراء شجرة الميلاد وملابس بابا نويل، الأمر الذي يظهر وحدة المواطنين وتوقهم إلى الاحتفال، على الرغم ممّا تعانيه مدينتهم وعلى الرغم ممّا يقاسونه من ممارسات الاحتلال".
في المقابل، يبدو المشهد في الباب الجديد، أحد أبواب البلدة القديمة من القدس، شاحباً وبارداً حول شجرة الميلاد التي نُصبَت قبل أكثر من أسبوع عنده. والشجرة لم تُضأ إلا يوم الأربعاء الماضي، بعدما كان ذلك مقرّراً قبل نحو أسبوعَين.
بيت لحم حزينة
في الضفة الغربية المحتلة، صارت في الأيام الأخيرة رائحة الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية تطغى على أجواء عيد الميلاد في مدينة بيت لحم، في حين تعلو صافرات سيارات الإسعاف التي تنقل مصابين من شباب المدينة الذين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة.
ويقول رئيس المعهد الإكليريكي للبطريركية اللاتينية في بيت جالا، الأب جمال خضر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ما يشهده المدخل الشماليّ لمدينة بيت لحم من حوادث ساخنة يؤثّر بشكل كبير على أجواء الميلاد في المدينة. فهو يحدّ من الحركة في الأسواق ومن مظاهر العيد وتبادل الزيارات، ويعوّق تحرّكات الناس الخاصة بتحضير مستلزمات العيد".
وبيت لحم، المدينة التي تحتضن كنيسة المهد، من المفترض أن تكون محطّ أنظار العالم في قداس عيد الميلاد. لكنّها، بحسب ما يصفها خضر، "حزينة وتفتقر إلى السلام. ومع ذروة الاحتجاجات على قرار ترامب الأخير لم تعد وجهة للمصلّين، تفادياً لأيّ خطر محتمل". بالتالي، سوف تقتصر الطقوس في المدينة على الشعائر والصلوات الدينية، وسوف تغيب عنها مظاهر الفرح. فمدينة بيت لحم تحزن لحزن مدينة القدس وتغضب لغضبها، فالفاصل بينهما جدار وعدد من الحواجز التي لا تسمح للفلسطينيّ ابن بيت لحم بالعبور إلى القدس إلا بتصريح يمنحه الاحتلال وضباط استخباراته.
ويشير خضر إلى أنّ "عائلات مدينة بيت لحم التي يغلب عليها الطابع المسيحي في خطر، لا سيّما عند المدخل الشماليّ الذي يُعَدّ نقطة ساخنة للمواجهات مع الاحتلال". يضيف أنّ "بنادق الاحتلال تغيّب أجواء العيد عنها، وتحدّ من حرية الحركة والتنقل وتقضي على مناحي الفرح فيها".
تحت رحمة البنادق
كثيرة هي العائلات المسيحية التي تعجز في هذه الأيام عن عيش أجواء العيد، إذ إنّ منازلها تحت رحمة القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع، عدا عن القلق والخوف المستمرّين حين تُوجَّه فوهات البنادق صوب نوافذ المنازل التي كان من المفترض أن تتلألأ بأنوار الميلاد.
عائلة حرب على سبيل المثال، يعيش نحو 13 فرداً منها في منزلَين قريبين جداً من البرج العسكري للاحتلال عند المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم. ويأتي مشهد البيتَين ليلخّص حكاية العيد في المدينة.. النوافذ مغلقة بشكل كامل والأنوار مطفأة، خوفاً من الرصاص، بينما غابت التحضيرات الخاصة بالعيد، إذ إنّ حريّة التنقل محدودة، نظراً إلى استمرار المواجهات. فقرار الرئيس الأميركي أثار حفيظة شباب بيت لحم وغضبهم، سواءً أكانوا مسلمين أم مسيحيين، فاجتمعوا على مقربة من منزلَي عائلة حرب ورشقوا جنود الاحتلال بالحجارة وهم يهتفون لعروبة القدس وهويّتها الفلسطينية.
يقول عيسى حرب، وهو ربّ العائلة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الخوف يفسد ما تحمله القلوب من فرح في العيد. وبدلاً من التركيز على التحضيرات وتبادل الزيارات واستقبال التهاني، تتلقّى العائلة في هذه الأيام رسائل تحذير من قبل بقيّة أفراد العائلة، خوفاً من الرصاص والغاز الذي يخنق الميلاد في منزلَينا". ويشير حرب إلى "أجواء الخوف والحزن التي تعمّ بيت لحم"، جازماً بأنّ "المدينة تفتقد اليوم أجواء العيد".