في مطلع عقده الثامن، رحل ميشال جوري، أحد نجوم رواية الخيال العلمي في فرنسا. ومثله مثل النمط الأدبي الذي يكتبه، ابتعد ميشال جوري عن الأضواء منذ ثمانينات القرن الماضي. حتى وفاته، يوم 9 كانون الثاني/ يناير الجاري، صادفت انشغال الفرنسيين بجريمة "شارلي إيبدو"، فكانت هي الأخرى بعيدة عن الأضواء.
يقف جوري في موقع غير قابل للتصنيف بين الكاتب الشهير والكاتب النكرة. في كل الحالات، يشهد على منجزه رقم الـ 68 عملاً روائياً، ويعترف له جميع متابعي عالم الخيال العلمي بأنه أحد كبار هذا النمط على مستوى الثراء والحبكة والأساليب والتنويع، ولكن قلة يذكرونه.
تفسّر منعرجات مسيرة جوري هذا التقييم الجماهيري القاسي؛ وقد دفع في الحقيقة ثمن اختيارات أدبية. فمثلاً، لم يراهن جوري على الطفل الذي يصنع عادة لأدباء الخيال العلمي شهرة عابرة للأجيال. كما أنه كاتب أحب أن يكون تجديدياً، فظل يبحث وينوّع حتى أنه لم يستقر أبداً على أسلوب يعوّد عليه قراءه، ظل يلتقط في كل مرة شريحة جماهيرية تعترف له بإبداعه ثم سرعان ما تنساه.
ينتمي جوري لعائلة فلاحية من منطقة دوردوني جنوب غرب فرنسا. الأصول الريفية، عادة، لا تنجب ولداً يصبح في ما بعد كاتب روايات خيال علمي، مهما كان قارئاً ومحبّاً للخيال، الذي من المتوقع، بحكم بيئته، أن يأخذ اتجاهات رومانسية. هكذا، ظل اختيار أدب الخيال العلمي بلا تفسير في طفولة جوري. أما عن توجهه صوب الكتابة، فقد كان صدفة متأخرة.
في مطلع الخمسينات التي توافق أواخر سنوات مراهقته، علم جوري أن والده كان زميلاً في نفس الفيلق الذي خاض الحرب العالمية مع كاتب صحفي مشهور هو مارسيل غرانشي. طلب من والده أن يعرفه إلى الكاتب الذي سرعان ما اكتشف فيه ملكة خيال واسع، فأشار له بالتفكير في كتابة الخيال العلمي بناء على ما تعلم من دروس الفيزياء وعلم الفلك.
لم تخب ظنون الكاتب الشهير، فقد نجح جوري في كتابة قصص جيدة اعتبرت قابلة للنشر في صفحات الإبداع للجرائد الباريسية. ولم يعد هناك ما يمنع الكاتب الناشئ من التحوّل إلى باريس سوى الحصول على شهادة الباكالوريا وهو ما تحقق سنة 1952.
في بحر باريس المتلاطم بالأفكار والتيارات والمدارس الأدبية، فقد جوري بوصلته لبعض الوقت؛ فاستسهل الكتابة، حتى أنه أخذ ينشر قصصاً ذات طابع أدبي عام. نشرت له الجرائد والمجلات الأدبية العديد من القصص، إلا أنه بدا كاتباً عادياً للغاية، وطلب منه الكثيرون أن لا يستمر لأنه يفتقد عنصر الابتكار. حين خبا وهج موهبته، افتقد جوري دعم غرانشي، وبدا أن حلمه بتجميع قصصه ونشرها في كتب مطبوعة قد ذهب هباء. للحظة، أقر بأنه كاتب قد ظل الطريق إلى الأبد، ولا بأس أن يكتفي بحياة عادية كمفتش في المستشفيات الحكومية.
فكر بالانسحاب، إلا أنه تذكر أن أول ما لفت به الانتباه هي قصة خيال علمي للأطفال. تطوّع أحد الناشرين بتردد على طباعتها، إلا أن النتيجة بدت كارثية. أفهم الناشر جوري أن اسمه قد استهلكته الصحافة الأدبية، وقد أصبح بالتالي عبئاً على نصه. كانت الملاحظة القاسية سبباً كي يجد جوري مخرجاً، فقد قرر أن ينشر باسم مستعار.
أرسل مخطوط رواية ثانية لأشهر سلسلة روايات خيال علمي "غالكسي" عن دار نشر "أوبتا"، وسرعان ما جاءه رد إيجابي بنشر الرواية، كما استحسن الناشر الاسم الذي اختاره الكاتب لنفسه: ألبير هيغون. وبهذا الاسم سوف يحلق جوري بعيداً. فقد تحصل بفضل روايته الثانية في سلسلة "غالكسي" على أهم جائزة لأدب الخيال العلمي في ذلك الوقت، جائزة "جيل فيرن"، عن رواية "ماكينة السلطة". وقتها فقط ستعرف الساحة الأدبية أنها لم تكتشف وجهاً جديدا كما ظنت، وإنما استرجعت اسماً ظن الجميع أنه دخل النسيان. وفي سنة 1984، أعاد جوري نشر رواية "ماكينة السلطة" بإمضائه الحقيقي.
بعد حصوله على جائزة "جول فيرن"، تصوّر الكاتب، مرة أخرى بأن مسيرته انطلقت نحو المجد الأدبي، إلا أنه واجه صعوبات حقيقية في تجاوز الإنجاز الذي حققه. فهم جوري أنه يحتاج إلى ثقافة أوسع، وما تحقق لم يكن سوى ضربات حظ متفرقة.
اضطر إلى الانقطاع عن النشر وانغمس في تجميع ثقافة موسوعية. ولعل سنوات الانقطاع من 1960 إلى 1973 هي سر نجومية جوري التي حققها في سنوات السبعينات والثمانينات، وكانت ثمرتها هي أول رواية نشرها بعد الانقطاع رواية "الزمن غير المؤكد" والتي امتزج فيها الخيال العلمي بعلم النفس وعلوم الجريمة، كما أنه استثمر نزعة الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا في بداية السبعينات، فكان أول من يدخل هذا النفس التجديدي في أدب الخيال العلمي في فرنسا.
ابتكر جوري مفهوم "الكرونوليز" في عالم الخيال العلمي، الذي يعني به "الوقت المشوه" وقد استعمله أدباء آخرون من بعده. كما أنه وظّف جدالات السياسة في عالمه، إذ أدخل جبروت "الشركات المتعددة الجنسيات" على الفضاء الكوني. أخيراً، وُضعت مسيرته على السكة، وجاءه الاعتراف من كل صوب، حتى أنه أصبح من ضمن القائمة المضيقة للكتاب الذين يمكنهم أن يعيشوا من أقلامهم.
يشير متابعون لمسيرة جوري بأنه من أبرع الكتاب في "لعبة النشر". لقد كان يتجه حيناً نحو أكبر دور النشر وأرقاها، وحين آخر إلى تلك الباحثة عن اسم يمكنها من الصعود، كما كان يعرف متى ينشر لدى دور النشر التجارية. وحين انطفأ من جديد اسمه بسبب الاستهلاك المفرط، اذ دخل في نسق روايتين في السنة الواحدة، عاد للإمضاء باسم ألبير هوغون.
وخاض تجربة الكتابة الثنائية مع بيار مارلسون ليستفيد من شريحة جماهيرية جديدة. وفي الثمانينات، حين أصبح اسماً من بين أهم ثلاثة أسماء في مجال الخيال العلمي، اتخذ ناشراً محترماً وجدياً يؤمن له مداخيله ويعفيه من متابعة المبيعات؛ وهو ما مكنه بأن يتحوّل إلى شخصية عامة تدلي بدلوها في شؤون السياسة والمجتمع.
توالت الجوائز الأدبية على جوري، واعتبرته الصحافة الأدبية من ضمن "كتاب الجوائز". في أواسط التسعينات، اعتقد متابعوه بأنه سيتوقف عن ذلك النسق الجنوني في النشر، إلا أنه ظل محافظاً على عادته بتقديم روايتين أو ثلاثة في كل عام، وكأنه كان يريد أن يحطم رقما قياسياً.
في ذلك الزمن الذي كان فيه جوري يراكم الكتب والجوائز والأرقام والشهرة، كان بساط الجماهيرية يسحب من تحت أقدام أدب الخيال العلمي. لقد أصبحت السينما هي ما يتجه له محبو هذا النمط، وليس الرواية. وحين قدّم التلفزيون أفلام الخيال العلمي تكرّس نمط في أذهان الجماهير، كان نمطاً بعيداً عن رؤية جوري، وسرعان ما ظهر عزوف على روايته في إطار عزوف عام عن روايات الخيال العلمي. هنا انقطعت بجوري شعرة الجماهيرية والنجاح من جديد.
لماذا لم تهضم السينما روايات ميشال جوري؟ إن تلك الجرعات النفسانية والسياسية المكثفة التي ضمنها في أبرز أعماله، والتي خلقت له نجاحاً كبيراً لدى قراء السبعينات، لم ينظر لها المخرجون والمنتجون بنفس الإعجاب في التسعينات وما بعدها. لم يخض أحد مغامرة رواياته، فنمط الخيال العلمي في السينما، والذي يحتاج إمكانيات إنتاج ضخمة، يستدعي جمهوراً خاصاً يذهب مباشرة إلى ما يريده، فلا يمكن لأحد أن يتجرأ على هز انتظاراته.
عاش جوري سنوات الألفية الجديدة، مثلما يعيشها نجوم الفن والرياضة السابقون. يعترف له الجميع بسنوات إبداعه وتتهافت دور النشر على أي جديد له، ولكنه لم يعد في طليعة الحياة الأدبية، وليس له أثر فيها إلا كضيف شرف.
إنه، بلا شك، قد فكر في سنوات عزلته بمصير النمط الأدبي الذي يكتبه في ظل متغيرات العصر. كان جوري من أكثر من حاول تجديده، إلا أن هذا الفن الذي يبدو من أكثر الفنون معاصرة، يعجز أن تتسرب دماء التجديد في جسده. لقد حوّل التكريس أدب الخيال العلمي إلى فن تلقيدي.