في سورية الثورة، موظفو القطاع الحكومي لا يملكون حق الخروج والسفر إلا بتصريح رسمي، لا يملكون حق ابداء الرأي إلى بما يتوافق وسياسات الدولة، أنفاسك معدودة ودخلك محدود، وغلاء الأسعار لا يرحم حصارك
"م.ت"، العامل ضمن وزارة الصحة في دمشق، والذي رفض الإفصاح عن شخصيته، لكنه لم يرفض التعبير عن همه وسخطه، "لديً خدمة 30 سنة في القطاع الحكومي، أتقاضى اليوم دخلاً شهرياً، يبلغ 38 ألف ليرة سورية، أي 210 دولارات، بمعدل 7 دولارات في اليوم، ارتفع إيجار منزلي بعد موجة النزوح إلى دمشق، وتضاعفت أسعار المواد الغذائية لأكثر من ثلاثة أضعاف، ودخلي الشهري كما هو، دخلي ودخل ابني وزوجتي لا يكفينا حتى لإكمال الشهر".
معاناة لا تنتهي
قصص المعاناة لا تنتهي فحالة "أ.ج"، عامل في مؤسسة استصلاح الأراضي بدمشق، تبدو أكثر تضرراً: "المؤسسة التي أعمل ضمنها تقع في منطقة حرستا، تم تدمير المنطقة بشكل كامل، ومن ضمنها منزلي القريب من مكان عملي، لذلك أعيش وزوجتي اليوم في منزل ابني، إضافة إلى والدة زوجته" ، مشيرا إلى كونه وابنه وزوجته موظفين حكوميين ورغم ذلك لا تكفي مرتباتهم الثلاثة للعيش بكرامة، قائلا :"اضطررنا الشتاء الماضي للحطب كعنصر أساسي للتدفئة، بسبب غلاء أسعار المحروقات، و اللحم بات قليلاً ما يدخل منزلنا، حتى حليب الأطفال أصبحنا نقتصد به، الحياة في دمشق لم تعد تطاق".
بالعودة إلى قانون تنظيم العاملين في سورية، نكتشف أن موظف الدرجة الأولى، يتقاضى في بداية تعيينه في القطاع الحكومي، حوالي 14 ألف ليرة سورية أي 80 دولار، بمعدل دولارين ونصف في اليوم، في الوقت الذي باتت فيه دمشق من أغلى عواصم العالم على مستوى المعيشة.
ليست نار الضغط الاقتصادي فقط ما يتعرض له عمال القطاع الحكومي في سورية، وإنما أيضا اجبار الأمن لهم على اتخاذ مواقف مؤيدة للحكومة، التي تتعامل معهم بمنطق" مادمت أدفع لكم الرواتب فلابد من اتخاذ المواقف التي نريد".
بابتسامة ساخرة ولغة تهكم يُعبر أحمد الخضر، العامل في مؤسسة الإسكان العسكري بدير الزور، قائلا:" مع بداية الأحداث كنا نجبر على الخروج في مسيرات مؤيدة للنظام، وأصبح اثبات الحضور للعمل في أيام المسيرات لا يؤخذ ضمن الدائرة الحكومية، وإنما في ساحة التجمع التي ستنطلق منها المسيرة، ومن يتغيب ترفع فيه تقارير أمنية، ويلاحق إلى أن يتم اعتقاله والتحقيق معه، ومع انتشار المظاهرات المعارضة للنظام، بدأت الحكومة بالدفع لأصحاب النفوس الضعيفة من العمال، للنزول إلى الشارع وقمع المظاهرات".
يضيف متذكرا: " بعد سيطرة الجيش الحر على أغلب أحياء مدينة دير الزور، قامت الحكومة بقطع الرواتب عنا، قمنا بتشكيل وفد من العاملين في المديرية، لمقابلة المدير العام وطرح المشكلة عليه، فكان جوابه: " ذلك لأنكم لم تحموا مناطقكم من المسلحين، ولم تجتهدوا لتحريرها"
الاعتقال، الطرد التعسفي من العمل، عدم تسليم المرتبات الشهرية، كلها عوامل ساهمت في دفع موظف القطاع الحكومي، إما للبقاء ضمن سيطرة النظام، بين مطرقة الأمن وسندان العوز، أو العودة إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، أو اللجوء إلى المخيمات في دول الجوار.
الخيار الأخير كان قرار ناصر زرزر الذي حدثنا بجدية وحسرة من داخل خيمته، التي لم تتضح معالمها عبر "السكايب" قائلاَ، " أعمل ضمن مؤسسة صوامع الحبوب، في عدرا العمالية بريف دمشق، تم اعتقالي بعد دخول جبهة النصرة لمدينة عدرا العمالية، ووجهوا لي تهمة التعاون مع المسلحين، علماً أني لا أعرف أحداً منهم، ثم خرجت لأتلقى قرار فصلي من العمل، وحرماني من كافة حقوقي وتعويضاتي الوظيفية، لم يعد لدي أي مصدر للرزق، مما اضطرني للجوء إلى تركيا، والبقاء في مخيم كلِس للاجئين السوريين".
قف..أنت موظف؟!
إذا ما قرر عامل القطاع الحكومي اليوم الهرب إلى خارج سورية، نتيجة الضغوط، فذاك ليس بالأمر السهل أيضاً، إذ أصدرت الحكومة السورية مؤخراً تعميماً، يقضي بمنع السفر لجميع موظفي القطاع الحكومي، إلا بموافقة المحافظ، أو الوزير المختص، مع تحديد مدة الإقامة وأسباب السفر.
ماسبق تسبب في فشل محاولات سفر السيد، مثنى النابلسي، العامل في وزارة المالية بدمشق،قائلا:" حاولت الخروج منذ شهرين إلى بيروت لزيارة ابني، الممنوع من دخول سورية لأنه مطلوب لخدمة العلم، فقام المعبر السوري بإجباري على العودة إلى دمشق، بعد أن تبين في السجلات لديهم أنني موظف حكومي ".
ويضيف الرجل الخمسيني، " عدت إلى دمشق رافعاً طلباً للوزير، للحصول على إذن للسفر إلى لبنان، انتظرت شهراً كاملاً ليأتي الطلب بعدم الموافقة، وإلى الآن لا أعرف السبب، فضاقت الأمور بي ذرعاً، حتى خرجت وعائلتي إلى دير الزور ومنها إلى تركيا، عبر معبر للجيش الحر، واليوم أبحث عن أي سبيل للوصول إلى أوربا، إذ لم يعد بإمكاني العودة إلى سورية وخصوصاً بعد أن حمل جواز سفري ختم المعبر البري للجيش الحر".
يبدو أن الأمر لم يتوقف عند منع السفر، إذ أصدر وزير المالية في حكومة النظام، الدكتور محمد الجليلاتي، تعميماً للجهات التابعة للوزارة، يقضي بعدم صرف أي تعويض من الإجازات السنوية للعاملين في الدولة، وذلك بالاستناد إلى كتاب رئاسة مجلس الوزراء رقم 15668/1، وبذلك يكون وزير المالية قد أغلق الباب الأخير أمام موظفي الدولة بالاستفادة من تعويض أو مكافئة، بعد الكتب السابقة التي تضمنت عدم صرف أي مكافئة أو تعويض عمل إضافي أو طبيعة عمل، بل وألغيت القروض لجميع موظفي القطاع الحكومي ليصبح العامل محاصراً بين خيارات أحلاها مرُ.