نادراً ما تتعرض الأغنية العربية لظروف قسرية خارجة عن المألوف، تجعلها في مستويات دنيا خلافاً لما كانت عليه في الوضع الطبيعي. فهي، وفق مسوغات إنتاجية، سنويّة كانت أم موسمية، في حالة نشطة تتأرجح معها كفتا الميزان، في عملية تقدير مستوى نجاح أو فشل الأعمال المطروحة. لكن الظرف القسري غير المألوف، أمام طبيعة الظرف الراهن، والمعطيات العملية الجديدة، أصبح بشكل أو بآخر مألوفاً.
والأهداف المبتغاة نأت بنفسها عن العملية الحسابية والإنتاجية، ليبقى الحَكَم المزاج العام الجماهيري وذاكرته الوجدانية والنفسية أمام أزمة وبائية شُلَّت معها جميع أشكال الحياة. منذ انتشار فيروس كورونا قبل نحو ستة أشهر، وانشغال المجتمع الدولي باتخاذ التدابير والإجراءات الصحية المناسبة لوقف تفشيه، شهد السوق الفني العربي تقلبات إنتاجية فرضتها القيود الصحية والوقائية، من حجر منزلي وتباعد اجتماعي، وما تبعها من إيقاف لجميع النشاطات والفعاليات المرفقة لأي نتاج فني مدة أشهر قليلة، قبل عودة الحياة بشكل نسبي في عدد من الدول العربية.
غير أن هذه العودة محكومة بالقلق والحذر، لا سيما أعداد كبيرة من الناس لاقت حتفها وغيرها أصيبت، مما شكل صدمة نفسية ووجدانية في نفوس البشر. لكن قسماً آخر من الناس اعتاد طبيعة الظرف والتعايش معه بسبل مختلفة، إلا أنها هي الأخرى رهينة الخوف والحذر، وكان انعكاسُ ذلك واضحاً على العلاقة التبادلية بين الجمهور والمغني. فكلا الطرفين كان عرضة للانتكاسات التي سببها كورونا؛ الأول باعتباره كياناً متلقياً في ذاته محتكمٌ لمشاعره وذاكرته، والثاني له صلة بالإنتاج وغايته فهم وإدراك مشاعر الأول، للوصول لذاكرته مهما كان شكل وحجم الضغوط والصعوبات التي يكابدها.
فهل يمكن اعتبار مجمل ما شاهدناه أو سمعناه من أعمال غنائية، منذ مطلع العام الحالي حتى يومنا هذا، أعمالاً ذات بصمة انتقائية مرهونة بعلاقة المغني والمستهلك أمام الفيروس؟ وهل ستترك هذه الأعمال، خلفها أي أثر يذكر في ذاكرة المستمع العربي مثلما كانت تفعل قبل الجائحة؟
مع وقف الحفلات والمهرجانات الغنائية بادئ الأمر، وجدت يد الإنتاج في العالم الافتراضي نافذة غاية في الأهمية لتعوض القليل مما خسرته، وتعيد للسوق حركته المشلولة، ثم ما لبثت أن شهدت المنصات الرقمية زخماً واضحاً في الأعمال الغنائية المطروحة. عشرات الأغنيات الجديدة متعلقة فقط بفيروس كورونا، ساخرة أو متهكمة في معظمها، الأمر الذي لا ينزعُ صفة التكرار عنها. أعمال أخرى مصورة، نُفِّذَت وفق معايير السلامة، أي التوتر والقلق مع استهلاك كبير في الجهود والمصاريف، وحفلات "لايف" يطرح من خلالها النجوم، بشكل فردي، أعمالهم القديمة والسابقة في سبيل الحفاظ على تواصل الفنان مع جمهوره.
هذا لا ينفي بعض الخطوات التي أقدم عليها عددٌ من النجوم في سبيل استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين والمستهلكين عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمتاجر الموسيقية الإلكترونية التي يمكن استقراؤها بطريقتين: الأولى من خلال طرح "دويتات" لحفلات أو أغنيات جديدة كما فعلت الفنانة اللبنانية إليسا بمشاركة مواطنتها هيفا وهبي في أغنية "هنغني" التي طرحتها "روتانا" عبر "يوتيوب" في شهر إبريل/ نيسان الماضي، والثانية تتعلق مباشرة بالآلية المعتادة في عمليات التسويق، إذ ينتظرُ عدد كبير من مشاهير الغناء العربي، مجبرين هذه المرة لا مخيّرين، قدوم عيد الأضحى، لطرح أغانيهم وألبوماتهم الجديدة، فغالباً ما تكون النتائج إيجابية في المناسبات والأعياد الشعبية والرسمية.
في الوقت نفسه، تنشغل الجماهير في متابعة آخر المستجدات المتعلقة بكورونا، تقارير وأخبار ودراسات يعوّل عليها من أجل الإتيان بأنباء تقضي باكتشاف ذوي الاختصاص علاجاً يقضي نهائياً على هذا الفيروس. هو قلق عام، لكن يتخلله نزعة الإنسان للحياة. فهذا الأخير دائما ما يبحث عن متنفّس له من خلال ممارسة أو متابعة نشاطات معينة يوليها الاهتمام الأكبر لتخفف عنه عبء الضغوط التي فرضت عليه. لذا تأتي الفنون، بمختلف أشكالها، في طليعة هذه الأولويات التي تلبي حاجاته النفسية والروحية لرأب الفراغ الذي أحدثته جائحة كورونا في شكل الحياة التقليدي لديه.
وباعتبار الموسيقى عاملا حسياً متحرراً من الظرف الزماني والمكاني، على خلاف بقية الفنون، فيمكن القول إنها أجدى بالمتابعة. غير أن الموسيقى رغم تحررها هذا، تبقى في كثير من الأحيان رهينة الحدث، وخادمة له. فيكون توظيفها مناسباً بقدر ما يكون الحدث ملهما. ما صدر من أعمال، سواء تلك التي تحاكي وباء كورونا، أو غيرها من المواضيع التي ترفّه عن الجمهور، تبقى في فناءٍ بعيد عن ذاكرة المستمع، بخلاف الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي أظهرت نتائج أفضل في تعديل أو تحسين المزاج الخاص للجماهير. إذ أدركت شعور الأخير ومزاجه في ظل هذه المحنة، وأثبتت قدرتها على التأثير عليه والتفاعل معه في جميع الظروف، وبشكل أوسع مما تسمح له الموسيقى التي يمكن القول إنها أصبحت، وفق المعطيات المشار إليها أعلاه، في ترتيب متأخر عن باقي أشكال الفنون المدرجة في سلم اهتمامات المواطن العربي وذاكرته، خلال العام الحالي.